مساحة إعلانية

     

 

    

  

الفيس بوك

وداعا زميلَنا الطيب النبيلَ أبوه ولد أعْلَادَهْ/ بقلم: النبهاني ولد أمغر

هُوَ المَوتُ عَضْبٌ لا تَخُونُ مَضارِبُه

وَحَوضٌ زُعَاقٌ كُلُّ مَن عاشَ شارِبُه

وَما الناسُ إِلّا وارِدوهُ فَسَابِقٌ

إِلَيهِ وَمَسبوقٌ تَخِبُّ نَجائِبُه

يُحِبُّ الفَتى إِدراكَ ما هُوَ راغِبٌ

وَيُدرِكُهُ لابُدَّ ما هُوَ راهِبُه

فلسفة واضحة الدلالات وكُلِّيَّة صادقة الجُزْئيات، أَبْدَعَ تسطيرها شاعر هذه الربوع الأول، ابن رازكه، فَعَبَّر بشاعريته الصقِيلة عن هذه الحقيقة الْيَقِينِيَّةِ التي لم تزل الأيام والليالي بل الساعات واللحظات والثواني، تؤكدها عِيَّانا، منذ أن دَحَا الله أرضه ورفع سماءَه وخلق عباده واستعمرهم في كونه.

ومع أن كل راحل مهما كان عن هذه الدنيا، تارِكٌ فراغا ومُحْدِثٌ فجوة لا محالة، فإن الفراغات والفجوات تَتَفاوت وتَتَمايز وتَتَباين وتَتَفَاضل!

واليوم تتضاءل الكلمات الجامعة المانعة وتنهار الحروف المشرقة المعبرة وتعجز الأساليب البليغة والبديعة، عن تصوير مدى الألم والحزن الذي خَلَّفَه فينا رحيل أخينا الأكبر وصديقنا وزميلنا الطيب النبيل طلق المُحيا ضاحك الوجه، الأستاذ أبوه ولد اعْلَادَهْ، الذي تَرَحَّلَ عن عالمنا الفاني بدون استئذان، وليته تلَبَّثَ قليلا معنا - على الأقل - لِنُرِيَّهُ من آيات حُبنا وتقديرنا وإعجابنا الكبرى له، إنَّهُ كان فينا هيّنا ليّنا كريما قريبا أريبا.

غادرنا.. غير مَقْلِيِّ الثوى ولا مَمْلُولِه، ولدى كل من عَرفه من زملائه وأصدقائه طيلة حياته - التي وإن لم تكن طويلة فقد كانت عريضة - حبٌ جارف له لا يُعَبَّرُ عن مدى عمقه وصدقه وسُمُوِّه، وفي كل زاوية من الزوايا التي مرَّ منها أو الأركان التي أنَاخ بها، خلال مسيرته، ذكرٌ طيب له وحديثٌ حسن عنه؛

وإنما المرء حديث بعدَه

فكن حديثا حسنًا لمن وعى

غادرنا.. فترك حُفرةً بعيدة الغَوْرِ في صرح الفضائل بحجم طيبته ودماثة خلقه ونبل سعيه، يصعب مَلْؤُها وخَلَّف فَتْقَا بارزا في جدار المحامد يعزُّ رَتْقُه.

غادرنا.. فأرخى ليلُ الحزن المُدْلَهِم سُدُولَه، وضرب ألمُ الفَقْدِ المُوجع بِجِرَانِه، ومن تفحَّص قليلا وجوه الآلاف الذين حضروا الصلاة عليه في جامع التوبة المكتظِّ بالدعاة والمتبتلين، ومن ساروا خلفه في رحلته السرْمدِية إلى أن وُورِيَ ثرى مقبرة لكصر العتيقة، ورأى العبرات تخنق المشيعين والأسى المُتَدَثِّر بالرضى بقضاء الله وقدره، يغالبهم فيغلبهم أحيانا ويغلبونه حِينا، سيدرك حجم ذلك الألم والحزن، ويعِي مقدار المساحة التي ملكها ذلك الرجل الطيب النبيل من نفوس وأرواح أهله وأحبته وزملائه ومعارفه.

وُلِدَ أخونا وصديقُنا أبوه، رحمه الله، بمدينة ازويرات، فتَمَلَّك قلبَه حبُّها رغم علاقته الوراثية بمنطقتي تكانت وآدرار البديعتين، وتنقَّل في مختلف مراحل التعليم، مُتَوجا مساره المعرفي بشهادة الماستر في الجغرافيا.

وفي التسعينات من القرن الميلادي المنصرم، التحق بالصحافة المستقلة، في أَوَجِ ازدِهارها، فعمل بها بعض الوقت، ثم انضم بعد ذلك للوكالة الموريتانية للأنباء، التي توفي وهو يدير واحدة من إداراتها.

وفي مختلف المؤسسات التي مرَّ بها والمسؤوليات التي تقلَّدها، كان يترك في كل مرة كما تتركُ السحاب بالتراب.

سيفتقده الأهل والأحبة، لا شك في ذلك ولا مراء، وسيحتاجون صبرا أيوبِيًا لترميم أرواحهم المَكْلُومة، نسأل الله أن يُفْرِغَ عليهم صبرا وأن يثبتهم، ولكن سنفتقده كثيرا في الوكالة الموريتانية للأنباء، وسنتذكره طويلا، وسنستعيد ذكرياته الجميلة وأحاديثه وانطباعاته مرارا.

ستغيب تلك القامة الفَارِعَةُ من قاعات التحرير والمكاتب وهي تداعب الحاضرين بلطف، وستختفي من المَمَرَّات والسلالِم وهي توزع التحايا والابتسمات يَمْنَةً ويَسْرَةً عفوا على العابرين، وسَتَذْبُلُ مجالس خاصة كان يمدُّها بوهجه ويخلع عليها بعضا من ألقه، وسَيُبَارِحُنا إعلامي مخضرم وإداري مرموق، يعمل بصبر وإتقان وينجز عمله بكفاءة عالية وأمان.

وإذا كنتُ قد تعرفت عليه متأخرا، فكم من آخِر في رتبة التقديم؛ فلقد طوى رحمة الله عليه، المسافات العُمْرية والوظيفية بيننا، وانفتح علي لطفا وفضلا منه، فرأيت فيه الصديق الصدوق والإنسان النبيل والرجل الطيب المخلص في عمله والذي يبذل الوسع بقناعة وحماس لِيقدم ما ينفع الناس ويمكث في الأرض.

زميلنا أبوه، رحمه الله، كان قد أصيبَ قبل أيام قليلة، بوعكة صحية مفاجئة، استدعت حجزه في المستشفى العسكري بنواكشوط ونقله بعد ذلك للعاصمة الجزائرية التي أسلم فيها الروح إلى بارئها فجر الجمعة الماضي (29 دجمبر 2023) بعد حوالي أربع وعشرين ساعة من وصوله أرض المليون شهيد، وكأن مشيئة المُدَبِّر جل شأنه، أرادت أن تكون نهاية ابن تيرس الفيحاء، في بلد خارجي ملاصق لها، وأن تكون البداية هناك في مدينة المناجم الوادعة والمستقرَّ الأبدي هنا في لكصر، وبين هذا وذلك، تجول حبيبُنا الراحل عبر الأزمنة والأمكنة، مخلفا ذِكْرا زاكيا وخيرا باقيا.

فإلى أسرته الخاصة وعموم عائلته، نتقدم بخالص العزاء والمواساة، متضرعين إلى الرحمن الرحيم، أن يسكنه الفردوس الأعلى من الجنة وأن يتجاوز عنه، ويجعله من الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، ويلهم عموم دوحته النبيلة الكريمة، جميل الصبر وحسن السلوان، وأن يبارك في عقبه، والتعزية موصولة لمؤسسته العتيدة (الوكالة الموريتانية للأنباء) إدارة عامة وعمالا، ولكل زملائه وأصدقائه ومعارفه، و وداعا أيها الزميل الطيب النبيل، وإنا لله وإنا إليه راجعون.

 

اثنين, 01/01/2024 - 16:06