مساحة إعلانية

     

 

    

  

الفيس بوك

موريتانيا... واتساع الهوة بين الخطابات

"قراءة في الأبعاد الفكرية لقضية محمد الشيخ ولد امخيطير "

لست هنا بصدد تقديم معالجة فكرية علمية: بقدر ما أحاول أن ألفت الإنتباه إلى ما هو ملاحظ وبصورة جلية في هذه الأيام من اتساع للهوة بين الخطاب الجماهيري "الديني"، من جهة، والخطاب الحداثي "العلماني" من جهة أخرى. يمكن أن نضيف هنا أيضا إلى ذينك الخطابين خطابا إلحاديا جديدا يحاول التسلل شيئا فشيئا إلى أديم هذه الصحراء المبارك أهلها: صحراء شنقيط: معمقا صلته بالخطاب الحداثي العلماني الذي سيمهد له الطريق ويسهل عليه مهمته.

لقد كشفت قضية المسيء إلى نفسه محمد الشيخ ولد امخيطير ـ بعد نشرِ مقاله الذي سب الرسول المصطفى صلوات عليه وسلامه وأساء إليه فيه ــ عن ذلك التمايز الواضح والتنافر  بين الخطابين: الجماهيري "الديني" والحداثي "العلماني" ـ خصوصا بعد أن أصدرت محكمة انواذيب حكمها الأخير الذي يقتضي منطوقه سجن المتهم سنيتن وتغريمة بمبلغ 60000 ألف أوقية وهو ما يعني إطلاق سراحه لأنه أمضى بالفعل أكثر من سنيتن قبل صدور الحكم ـ هذا التمايز يمكن أن نتلمس ملامحه بوضوح في الهبّات الجماهيرية التلقائية التي خرجت غيرة على عرض الحبيب المصطفى صلوات الله عليه وسلامه، مطالبة بتطبيق حكم الشرع في المسيء إلى نفسه.
إن هذه الهبَّات التلقائية لا يمكن ــ منطقيا وموضوعيا ـ وبأي حال من الأحوال أن نعتبر أن ما يحركها هو الأجنده السياسية المحضة؛ قد يحاول البعض ركوب الموجة، إلا أن الحقيقة الموضوعية أنها هبات تلقائية غير مستغربة في مجتمع كالمجتمع الموريتاني الذي عرف بتدينه ومحافظته واعتزازه بتراثه الحضاري الإسلامي، وبمحبته للرسول الكريم صلوات الله عليه وسلامه: إن أبسط دليل على ذلك هو أن تنزل للميدان وتسأل المتظاهر أو المحتج ببساطة ما هو دافعك وراء هذا التظاهر؟ ولعل حاله سيغنيك عن سؤاله.
تُتلمس ملامح هذا التمايز كذلك وعلى الضفة الأخرى في تصريحات ومواقف من يعتبر أن صدور هذا الحكم هو بمثابة انتصار  للدولة المدنية وتكريس لحرية التعبير فيها بالإضافة إلى أن فيه إظهارا لسماحة الإسلام.
في الحقيقة ينطبق وبدقة على الخطاب الجماهيري الآنف الذكر ما ورد على لسان الدكتور عبد الوهاب المسيري في مقال له تحت عنوان: "معالم الخطاب الإسلامي الجديد"، حيث قال ـ فيما يتصل بالخطاب الجماهيري ـ : "هو خطاب القاعدة العريضة من الجماهير الإسلامية التي شعرت بفطرتها أن عمليات التحديث والعلمنة والعولمة لم يكن فيها خير للأمة ولا صلاح لها... هذه الجماهير تحاول التمسك والتشبث بالإسلام فهي تعرفه جيدا.. هي تتحرك بموروثها الإسلامي وتستغييث في الوقت نفسه طلبا للنجدة، ولكنها لم تقدم فكرا ولا حركة سياسية منظمة.. وعادة( يضيف عبد الوهاب المسيري أنها غالبا ما تعبر عن نفسها) من خلال هبات تلقائية غاضبة..". لكأن الرجل يصف تجليات هذه الخطاب بدقة في موريتانيا بعد صدور هذا الحكم الأخير.
لكن السؤال الذي يتبادر إلى الذهن هنا هو التساؤل عن أبعاد ودوافع هذا التمايز، فهل الانصياع وراء الخطاب الحداثي ــ فيما يتصل بحالة محمد الشيخ ولد امخيطير ـ واللهث خلفه فيه نوع الاستلاب الحضاري؟ أم أنه حقا يظهر سماحة الإسلام وكونه يصلح لكل زمان ومكان ؟ وهل لدى الخطاب الجماهيري من الأسباب والمبررات ما يجعله يختلف كليا مع الخطاب الحداثي حتىى ولو اقتضى الأمر التضحية بالأنفس ؟
في الحقيقة إن الخطاب الحداثي الآن وفيما يتصل بقضية المسيء إلى نفسه، لا يدرك ــ أو يدرك ويتجاهل ـ أنه يمهد ويمكن للخطاب الإلحادي. وهو بذلك يجعل الحداثة حداثة لا ضوابط لها ولا قيود؛ أو بمعنى آخر إن الحداثة عنده هي منظومة متكاملة.. من القيم الحاكمة والحركية والموجهة... إنه يقر وببساطة هنا أن المنظومة الحداثية هي المنظومة التي ينبغي أن تسود وأن تحكم، حتى ولو كان ذلك على حساب المقدسات والرموز الدينية، إن الحداثة عنده  وباختصار تتحكم بالدين وليس الدين هو من يتحكم فيها. وهذه هي نقطة الخلاف الجوهرية بينه وبين الخطاب الجماهيري "الديني": فهو يعتبر أن الدين قادر على استيعاب الحداثة وتكييفها لتصبح ملائمة لخصوصيته الاجتماعية والحضارية: أو بمعنى آخر إنه يوضح أن هنالك فرقا بين الاستيلاب الكلي والتفاعل الإيجابي.

إن الخطاب الجماهيري "الديني"الآن ـ وكما هو واضح ـ مدرك لحساسية هذه القضية وأهميتها، فبالرغم من كون القضية قضية دينية بالدرجة الأولى عنده والأحاديث صريحة في  حكمها، ومواقف العلماء الراجحة شهيرة ومعروفة في المسألة وآخرها ما صرح المفتي العام للجمهورية الإسلامية الموريتانية أحمدو لمرابط ولد حبيب الرحمن: إلا أنه زيادة على ذلك يدرك الأبعاد التي تدفع الغرب إلى التأثير والضغط في هذه القضية وبالتالي فقد كان رافضا للرضوخ لها: فهذه "سارة ليا ويتسن"، مديرة قسم الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في "هيومن رايتس ووتش" تعتبر أنه لا يحق لموريتانيا أن تتهم أي شخصا بـالزندقة، وتقول بأن التهمة الموجهة إلى كاتب المقال المسيء تهمة سخيفة": وهذا المستشار القانوني الآمريكي في مقدمة الصفوف داخل قاعة المحكمة .. إن كل ذلك ـ وخصوصا بعد النطق بالحكم ــ جاء صادما للجماهير  الغيورة على عرض رسولها صلوات الله وعليه وسلامه واعتبرت أن فيه إهانة لها وخيانة للأمانة.. وبالتالي فهي مستعدة لفداء رسولها عليه صلوات الله وسلامه بالأنفس والمال والولد.. كما حدث مع شهيدة جامع ابن عباس تقبلها الله عنده في الشهداء.

  خلاصة ما أريد أن أصل إليه هو أنني أرجو أن نشهد عما قريب صُلحا وتماهيا بين هذين الخطابين.. يكون منطلقه الوصل مع التراث وليس القطع معه، والاعتزاز به وليس السخرية منه، وتقديس رموزه وليس سبهم والإساءة إليهم: فحينئذ سيكون لدينا خطاب إسلام حضاري متزن: فنغلق الباب بذلك أمام الإلحاد ودعاته.

أحد, 12/11/2017 - 10:48