مساحة إعلانية

     

  

    

  

الفيس بوك

صنع في موريتانيا

محمدو ولد البخاري عابدين

 

 

سبق وأن نشرت هذا المقال قبل ثلاث سنوات تحت عنوان " النسيج والجود، مقدرات معتبرة لتنويع الدخل وفرص التشغيل "، وقد شجعني على إعادة نشره اليوم مستجدات طرأت بعد تاريخ نشره، منها الاستراتيجية التي وضعتها الدولة للنمو المتسارع والرفاه المشترك، وكذا المبادرة الأخيرة التي أطلقها المجلس الأعلى للشباب تحت عنوان " ميد إن موريتانيا "، حيث لا نمو متسارع ولا رفاه مشترك بدون تثمين الموارد المحلية المادية والبشرية، 

والتركيز في ذلك على داخل البلاد وأريافها، خصوصا بعد رفع الكثير من العوائق التي كانت تحول دون ذلك كفك العزلة عن الكثير من مناطق البلاد وتزويدها بالماء والكهرباء. هذا علاوة على الصيحات والنداءات التي ما فتئت المؤسسات المالية الدولية تطلقها حول ضرورة تنويع الدخل وتفادي الاعتماد على مورد واحد مهما كانت أهميته واستدامته.
نص المقال السابق:
لست ممن ينبهرون كثيرا بما حققته أو تحققه بعض البلدان ذات الاقتصاد الريعي كالنفط والغاز، ( الاقتصاد الريعي يعرفه بعض الاقتصاديين بأنه كل دخل دوري غير ناتج عن العمل )  بل إنني، وغيري كثيرون، لا أعتبرها في الحقيقة حققت شيئا يذكر في ما عدا " غابات " أبراج الخرسانة، والطرق السريعة والجسور، والسلع والمعلبات المستوردة، ومظاهر الرفاهية الظاهرية.. إلا أن ذلك كله كان على حساب الإنسان الذي هو غاية ذلك كله، وهو من يفترض أن يكون وسيلته أيضا، بعد أن تسببت تلك الرفاهية في خلق أجيال من المدللين لا غنى لها عمن يخدمها بدء بتشغيل المصنع والمصفاة، وانتهاء بكنس البيت والشارع وإعداد الطعام ورعاية الأطفال. وهو ما بدأت تلك البلدان تتنبه له وأصبحت تفكر في تنويع دخلها وتغيير العقليات الاستهلاكية لشعوبها، لكنها اصطدمت بواقع تعود تلك الشعوب على العيش المجاني وتعذر فطامها عنه، وتحويلها من معتمد على دعم الدولة والخدمات شبه المجانية إلى شعوب حية منتجة مبتكرة ومُبادِرة.
ما يبهرني حقيقة، هي تلك البلدان التي جذرت ثقافة العمل والإنتاج في روح مجتمعاتها من خلال تطوير نظمها التعليمية والثقافية والاجتماعية، وخلقت اقتصادا متنوعا منتجا يقوم على عمليات إنتاج متسلسلة ينخرط فيها الكثير من الأفراد والتكتلات لتطوير مواردها إلى منتجات جديدة كلية، أي الاقتصاد الديناميكي الذي يحرك عملية الاقتصاد التي بدورها تحرك أنماط الحياة في المجتمع.
منذ ستينات أو سبعينات القرن الماضي، والشركة الموريتانية للزرابي في مكانها بمقاطعة لكصر بنفس البناية والوسائل ونفس الإنتاج، حيث ظل إنتاج هذه الشركة يقتصر على إنتاج قطع من السجاد وبكميات محدودة نظرا لندرة المواد الأولية المتمثلة في وبر الإبل، بالإضافة إلى نقص الموارد والوسائل اللازمة لتكوين العدد الكافي من اليد العاملة وتطوير وزيادة الإنتاج، مما جعل هذا النوع من السجاد يأخذ طابع إنتاج حرفي غالي الثمن لا يمكن تسويقه إلا من خلال عرضه في المعارض التراثية الدولية، أو باقتنائه من طرف بعض المؤسسات الرسمية كالرئاسة والوزارات بهدف التشجيع.. فلا أثمانه متاحة للكثير من المستهلكين، ولا هو ملب لأذواقهم من ناحية ألوانه وتصاميمه أمام أنواع السجاد المستورد.
لقد ظلت هذه الشركة في مكانها ووسائل إنتاجها، لكنها مع ذلك كونت مجموعات من النسوة اللائي أصبحن يتقن هذه الحرفة، ولا تزال قادرة على تكوين المزيد منهن لو توفرت لها الموارد، وهي بالتالي بنية تحتية قائمة سيكون من المفيد جدا استغلالها في قيام صناعة نسيجية بشكل أوسع، فقد تركزت اقتصاديات مهمة وقامت حضارات كبيرة على النسيج عبر التاريخ، كالحضارات الفارسية والعثمانية والصينية، ولذلك استمدت السجادة ( التركية ) عندنا اسمها من تركيا.. إلا أن السجاد الإيراني هو اليوم من أفخر أنواع السجاد العالمي بزخارفه وألوانه وملمسه، وتبلغ مداخيل البلاد منه 440 مليون دولار سنويا 80% منها موجهة للتصدير.
لا يوجد بيت موريتاني، في الحضر خصوصا، إلا و به قطعة سجاد على الأقل، ومن لا يستطيعون اقتناء السجاد الفاخر من المواطنين يلجأون لاقتناء الأنواع العادية منه، ذلك أنه من أساسيات أمتعة وديكور البيت الموريتاني.. مما يجعل صناعته بهدف تغطية السوق المحلي، كهدف أولى، صناعة مجدية بشرط أن تكون منافسة ومتنوعة وملبية لأذواق الجميع، وذات أسعار تأخذ في الاعتبار مستويات المستهلكين، ليكون منها الفاخر بالنسبة للقادرين، ومنها المتوسط ومنها ما دون ذلك. وقد تدخلت خيرية " اسنيم " مؤخرا في هذا القطاع وذلك بتمويل مراكز لتجميع الوبر داخل البلاد، لكن ذلك سيظل في إطار محدود يكرس النظرة لصناعة النسيج كنشاط تراثي، وليس كمورد اقتصادي هام لو أحيط بالعناية لعادلت مردوديته مردودية قطاعات إنتاجية أخرى، ولتفوق على تلك القطاعات بسهولة ممارسته في كل مناطق البلاد، وبقدرته على استيعاب أعداد كبيرة من نساء الريف العاطلات بل وحتى رجاله، فالنظرة السائدة عندنا بكون النسيج نشاط نسوي بحت هي نظرة تخصنا فقط لكنها ليست مسلمة، فالكثير من معامل النسيج بالعالم يشرف عليها رجال..
فالمطلوب إذن هو استيراد خيوط النسيج المتوفرة عالميا بنوعيات وألوان مختلفة، بالإضافة إلى أدوات وآلات النسيج اليدوي، وتكوين النساء على تقنيات النسيج الحديثة، وأنا متأكد من أن النساء الموريتانيات قادرات بعد تكوينهن على إنتاج أنواع فاخرة من السجاد بنمنمات ورسومات هندسية وألوان لا تقل جودة عن تلك المستوردة والموجودة اليوم في الأسواق المحلية، ولا تعارض بين إقامة معامل نسيج عصرية بهدف تجاري، وإبقاء شركة الزرابي على الجانب الحرفي التراثي من إنتاجها إذا كانت ترى ضرورة للإبقاء عليه.
والنسيج يتميز دون غيره من الأنشطة الأخرى بكونه أحد الأنشطة غير المعقدة، والتي لا تتطلب مستوى من التعليم ولا الكثير من الوسائل، حتى أنه يمكن تركيب آلات للنسيج اليدوي في غرفة من طين أو كوخ من قش في قرية نائية.. ومن المعلوم أن أريافنا وقرانا تتميز بهجرة الرجال إلى المدن بحثا عن عمل وبقاء النساء بدون عمل ما عدا أعمال المنزل، ولنتصور المداخيل المهمة التي ستدرها صناعة النسيج لو تم تكوين مجموعة من النسوة بكل قرية وكل مدينة وتزويدهن بخيوط وآلات النسيج، على أن تكون تلك الوحدات الإنتاجية تحت إدارة وإشراف وتأطير تنسيقية واحدة، وخير من يتولى تلك التنسيقية هي شركة الزرابي الحالية بحكم خبرتها وتجربتها الطويلة في هذا المجال، لتكون المناطق الداخلية مناطق إنتاج، وتكون العاصمة مركز تجميع وتسويق. فالملايين التي يتم تخصيصها سنويا للتعاونيات النسوية، والتي تصل لكل تجمع نسوي بمبالغ ضئيلة بسبب كثرة تلك التعاونيات فتضيع دون أن تكون لها مردودية، لا على الدورة الاقتصادية ولا على التعاونيات نفسها، لو تم توجيه تلك المبالغ المهدورة سنويا لإنشاء مجمعات نسيج في الداخل لكانت فائدتها أكبر وأعم.
نحن أيضا كما هو معروف بلد به ثروة حيوانية معتبرة، وبالتالي بلد منتج للجلود بشكل كبير، وفيما عدا الجزء اليسير الذي تستوعبه الصناعات التقليدية الجلدية مما تنتجه المسالخ يوميا من الجلود، فإن وجهة الباقي منها هو التلف، أو ما يشتريه أجانب بأثمان بخسة يقال إنهم يصدرونه لنيجيريا التي تعتبر الجلود مادة غذائية في بعض مناطقها! في الوقت الذي لدينا صناع تقليديون مهرة منذ عقود وهم يُشغلون معامل بسيطة لصناعة أنوع جيدة من النعل، لكنهم أيضا، على غرار شركة الزرابي، يعانون من نقص الوسائل والموارد، ويعتمدون على وسائل بدائية مما يجعل ما ينتجونه من النعل محدود الكمية وغالي الثمن.
هذا النشاط لو أحيط هو الآخر بالعناية، وتم النظر إليه كنشاط له مردودية كبيرة، فسيكون له أثر كبير في مجال التشغيل واستغلال الموارد المحلية، لكن ذلك لن يتحقق إلا بإدخال وسائل الإنتاج العصرية في صناعته، كالتقنيات الحديثة لدباغة الجلود وصباغتها وتلميعها وتقويتها وأدوات نقشها وماكينات الخياطة الخاصة بها، وكلها متوفرة في الأسواق العالمية، ولا ينقص سوى اقتناؤها ومن ثم تكوين صناع النعل الحاليين، وكل من لديه موهبة في هذا المجال على هذه الأدوات، وإقامة وحدات إنتاج عصرية يتم التركيز في إقامتها على المناطق الداخلية أساسا لتشغيل العديد من العاطلين عن العمل هناك، وخلق أنشطة موازية بعضها لجمع وإعداد الجلود، وبعضها لدباغتها وتلميعها، وبعضها الآخر للإعداد النهائي والتصنيع وذلك لتوسيع شبكة المستفيدين. ومهما تكن نوعية هذا النعل فإنها ستظل ذات جودة أعلى من الكثير من المنتجات القادمة من الصين مثلا والتي أغلبها ابلاستيكي، وستتميز عنها بكونها صناعة وطنية تطال فوائدها وعائداتها أكثر من جهة.
وطبعا فإنه من المطلوب مواكبة هذه الأنشطة الإنتاجية، سواء كانت نسيجا أو صناعات جلدية، حتى إذا ترسخت واستوطنت تكون الخطوة الموالية هي تحويل معامل صناعتها يدويا إلى مصانع آلية للتوسع في الإنتاج والبحث عن أسواق عالمية لتسويقه، فإذا كنا لم نمتلك بعد التقنيات والموارد اللازمة للصناعات الثقيلة، فإن الصناعات الخفيفة في متناولنا وهي الأنسب لنا حاليا، وخصوصا منها تلك التي نمتلك موارد بشرية صالحة لها.
وبعد نشر المقال الأول، خطرت ببالي أنشطة أخرى يمكن دمجها في استراتيجية النمو المتسارع والرفاه المشترك، وتشجيعها من طرف مبادرة المجلس الأعلى للشباب، كدعم وتشجيع تربية الأغنام محسنة الخصائص الإنتاجية في القرى والتجمعات وإقامة وحدات مقربة من هذه التجمعات لصناعة مشتقات الحليب كالزبادي وغيره، وكذلك دعم وتشجيع زراعة الفواكه القابلة للإنتاج في مناخنا كالموز والمانكو والجوافة والفراولة لقيام صناعات غذائية عليها، وهناك أيضا الحجارة الثمينة التي تصنعها نساء تيرس زمور والتي يمكن تثمينها بإدخالها في صناعة المجوهرات عن طريق اقتناء الآلات الحديثة لصياغة المجوهرات وتكوين الصناع والصاغة عليها. وبالتأكيد هناك الكثير من الموارد والمقدرات القابلة للاستغلال ستظهر عندما يتم البحث عنها في ضوء هذه الاستراتيجيات، وهناك أيضا رؤوس أموال محلية كثيرة يخاف أصحابها من أي نشاط غير التجارة، حيث تعودوا على استيراد علبة يربحون فيها مائة أوقية، ويتوجسون من استثمار أموالهم في أنشطة أخرى، وهؤلاء بحاجة لمن يقيم وحدات إنتاج تقنعهم بمردودية الاستثمار في تلك الأنشطة.  

 

أربعاء, 18/10/2017 - 00:00