بقلم عبد الفتاح ولد اعبيدن
لا يوجد في الأرض أكبر ولا أعمق ولا أبعد بصيرة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، قائد الدولة الإسلامية الأولى، ولأنه مربوط بالوحي بشكل مستمر، تحتم الاعتقاد أنه معصوم بغض النظر عن ما يثيره البعض في شأن عصمته في بعض الأمور الدنيوية التي لم ينزل فيها قبل نظره فيها عليه الصلاة والسلام الوحي المعجز النهائي، ولذلك استفهم بعض الصحابة ،ومن الأنصار خصوصا ،رسول الله صلى الله عليه وسلم، قبل اندلاع المعركة في بدر، أهي الحرب والمكيدة أم وحي غير قابل للنقاش والتعقيب، أو ما معناه.
فقال صلى الله عليه وسلم هي الحرب والمكيدة، فأشاروا عليه حسب خبرتهم العسكرية الصرفة بما يتطلبه الموقف واستجاب لرأيهم بالسيطرة على منابعها والتضييق على العدو المشرك في هذا الجانب بوجه خاص، ولم يمنع ذلك، لا قبل ذلك ولا بعده أن يتنزل المدد الرباني، حتى وصل إلى مرحلة تنزل الملائكة وحسم المعركة إلى جانب الجهد البشري .
وإنما كتبت هذا التمهيد لأصل من خلاله إلى القول ،إن رسول الله صلى الله عليه وسلم، هو أعقل العقلاء وأحكم الحكماء وأقرب الخلق طرا إلى الله، والأكثر تمكنا في مناحى الحل والفرج والتغلب على العدو، وبالتالي هو أكبر السياسيين، بمعنى تدبير الشأن العام من منظور شرعي إسلامي، ولكنه رغم كل هذه المزايا دفعته الظروف للتنازل ظاهريا لقريش في موقع "الحديبية" المحاذي لمكة، وتراجع وقتها عن الدخول لمكة فوريا، هو وأصحابه رضوان الله عليهم .
ووقع ما وقع من الحزن والتردد لدى البعض .
وفي المقابل، أعتبر ذلك القرآن فتحا، ونزلت عليه في تلك اللحظات سورة الفتح: "إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا ".
ومع مرور الوقت ورغم ما حصل في بعض الحالات المثيرة ظاهريا، والتي صاحبها حرص رسول الله صلى الله عليه وسلم على الاتفاق والعهد المبرم في الحديبية.
أجل مع مرور الوقت وضمن حيز زمني غير طويل فتحت مكة، وكانت الحديبية رغم تنازلاتها المؤلمة، التي كادت تعصف بالبعض.
نعم كانت هي الفتح المبين قبل فتح مكة: "إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا "، رغم ظاهر التنازل والمصاعب النفسية والسياسية الواقعية.
إن الأجواء الراهنة في موريتانيا، تشير إلى ضرورة التفكير فى اتفاق الحديبية وما صاحبه من حيرة وتنازل ظاهري وصبر على بعض جوانب الإتفاق المؤلمة بتسليم المؤمن مثلا لكفرة، قد يقتلونه أو يفتنونه عن دينه، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم، خاطب ذلك الصحبي المعني بالأمر، بضرورة الصبر فحسب، لأن الطرفين الإسلامي والقرشي يظلهم اتفاق ملزم إلى حين خفره، كما حصل من قبل الطرف المشرك.
نعم أدعوكم معشر المثقفين المسلمين في هذا البلد والنخبة خاصة والعارفة بشكل أخص بسيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلى ضرورة مراجعة صلح الحديبية وتمعن كل نقاطه البارزة والجزئية، لعل وعسى تفهمون أن أوقات الصراع بين الحق والباطل والخطإ والصواب ،وسلامة المنهج، والتنطع مقابل الإصرار على الحكم، من غير وجه شرعي.
كل هذا قد يستدعي حرصا كبيرا مضاعفا على الحوار.
إن الأمر يتلخص في كلمتين، المستقبل المنظور القريب على ضوء الواقع القائم بكافة أزماته يستدعي القول كذلك، إن الأفق المرتقب قاتم يستدعي أيضا الحزم الكامل، حتى لا تنزلق موريتانيا نحو المجهول بحق.
ونعود لموضوع الحديبية وقت حدوثها في بداية تاريخنا الإسلامي في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، مؤكدين على ضرورة قراءة هذا الدرس النبوي الرسالي الرباني بعمق وتأمل ونظرة ثاقبة موضوعية، وأقول في هذا المضمار وفي سياق هذه التجربة، إن الحديبية في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم تشير ضمنيا للقادة المسلمين والزعماء المسلمين بعد رحيله صلى الله عليه وسلم، أنه من غير المستبعد أن تصادف أمة ما من المسلمين، في مكان ما أو زمان ما عقبة تستدعي استلهام دروس الحديبية وتنزيلها كليا أو جزئيا ،ما استطعنا إلى ذلك سبيلا، لنتجاوز العقبة محل احتمال التصادم دون إراقة دماء وخسائر متنوعة، أو بعبارة أخرى دون دخول في أتون فتنة.
إن الواقع المعيش في ظل حكم "اصنادره" والمتغلب الحالي محمد ولد عبد العزيز، أقول هذا الواقع يدفع لتوقع ممانعة من قبلهم عن الخروج من دفة الحكم، بل أتوقع بقوة أن يفكوا أمر القفل الدستوري، ويبيحوا الترشح لمأموريات مفتوحة، وذلك عبر مقترح سيعملون على إجازته، عن طريق الجمعية الوطنية الحالية الهشة، التابعة في أغلبها لنظامهم.
وإن حسب البعض هذا التوقع غير راجح، فإني أعتبره مؤكدا جازما، يتطلب إعداد العدة، ما بين عدم الإستسلام والخنوع لهذا المشروع غير الدستوري وغير الأخلاقي وضرورة الحرص على تفويت الفرصة بأي ثمن، ما دام الأمر والخيار بين هذا الخنوع ووجود الوطن مع استقرار هش وفتح المجال لقلاقل قد تطيح بمشروع دولة موريتانيا الضعيفة أصلا.
ستجدون أنفسكم مضطرين لتوقيع اتفاق أو يفرض عليكم دون توقيع، ولو دعيتم لحوار من جديد فاستجيبوا، وإن لم تدعوا إليه فاسعوا إليه قبل أن يأتي وقت لا لغة فيه إلا الصدود والعناد وتطبيق المشروع الحرفي لولد عبد العزيز وأصحابه من المدنيين والعسكريين على السواء، بحجة استمرار قطار التنمية والإستقرار، وبدعوى أنكم معشر المعارضين الراديكاليين الوطنيين غير قادرين على درء الخطر في باب الاستقرار، وضمنيا يقول البعض سرا، الجيش لن يرحمكم عند الإختلاف لأنه ليس جمهوريا البتة ،بالطابع النموذجي الأكمل، ولن ينحاز لمصلحة حكم مدني ديمقراطي على الأقل في الوقت الراهن، بحكم عدم اكتمال الطابع الجمهوري لهذه المؤسسة العسكرية المتغلبة بحق والمثيرة للجدل.
إن الأمر يحتاج إلى معادلة أولها عدم الإستسلام والخنوع للتعديل الدستوري الثاني المنتظر الراجح، على مستوى الجمعية الوطنية، والقاضي بإلغاء القفل الدستوري، ولكن عندما يصل الأمر إلى الاختيار بين هذا وبقاء موريتانيا فإنني متأكد على ضوء قراءتكم لبعض جوانب ظاهرة الربيع العربي، وأزمة إخواننا العرب في هذا الصدد.
نعم واثق ،ستختارون مصلحة الوطن والشعب على أنانيات رغبات السلطة وأحلامها المدغدغة المخدرة المضرة.
إن النظرة الوطنية الفاحصة، وعلى ضوء صلح الحديبية الفاتح بعد صبر محدود زمنيا، يدفع للاعتقاد، أي أن أي تنازلات مهما تعلقت بالعلم أو النشيد أو القفل الدستوري، فهي أقل خطرا طبعا من القلاقل والدماء والسير بالبلد عن قصد أو عن غير قصد للنفق المظلم المعتم المخيف، والذي بات على الأبواب، بحكم اعتقاد أن "أصنادره" وصاحبهم ولد عبد العزيز لن يتخلوا عن أزِمَّة الحكم والسلطة في الوقت القريب المنظور، وإنما سيغيرون الدستور وإن خرجتم محتجين ربما يضربون من غير تعقل وحساب متوازن، فهم وإن كانوا أرحم وأكثر تسامحا من جنرالات مصر أو سوريا أو اليمن أو غيرها، إلا أنهم يشبهونهم من قريب، عندما يدفعون إلى ذلك دفعا، أي عندما تحرص المعارضة الراديكالية على فرض ما تعتقده الأصوب وهي لا تملك شارعا قادرا ولا آلية أمنية لتكريس شعاراتها ومشاريعها الصائبة على رأي البعض، الرافضة لخيانة الأمة مقابل إرضاء شعور قبلي دفين، في صدر الزعيم المتغلب، محمد ولد عبد العزيز، والذي يسعى عبره إلى ترك علامته على العلم والنشيد وفتح المجال لبقائه وجماعته العسكرية والمدنية لوقت أطول في دفة الحكم، قد لا تقل عن عهدتين بعد انتهاء الراهنة، أي 12 سنة من الاستبداد والاستحواذ، على حساب كل المصالح الوطنية إلا وجود موريتانيا .
أقول لكم نصحا معشر المعارضين المحاورين والمقاطعين للحوار والموالين على السواء والمعارضين سرا، خير لكم أن تبقى موريتانيا، مهما أفسد ولد عبد العزيز وحزبه العسكري والمدني، فلو دامت لغيره ما وصلت إليه.
سيذهب يوما ما غير مأسوف عليه، على رأي البعض، وإن شاءت النخب الوطنية المدنية القادمة وتحت حماية جيش جمهوري لاحق أن تنزع اللون الأحمر، فلتفعل ،أو تغير النشيد فلتفعل، أو ترجع القفل الدستوري فلتفعل، إلا أن هذه التنازلات المؤلمة كلها أقل خطرا من القلاقل والدماء والفتن، ودون حاجة للمزيد من الشرح، والسلام عليكم.
وإلى حلقة قادمة قريبة، ضمن تأملات حديبية جادة، أقول على منوال ما سبق، ما من صواب فمن الله وما من خطإ فمني.
ولله الأمر من قبل ومن بعد.