ليس من عادتي الكتابة عن الشخصيات مهما كانت مكانتها سامقة وعالية، خصوصا إذا كانت ما تزال على قيد الحياة، ولست بصدد مفارقة تلك العادة الآن، وليس هذا الوقت مناسبا –في نظري- للحديث عن خصال الرئيس محمد جميل منصور ومزاياه، وهي كثيرة وفيرة.
ولا أكتمكم أنه حين يتعلق الأمر بالرئيس محمد جميل منصور فإن الكتابة تكون مغرية، لأنها ستكون صادقة وثرية ومثيرة في نفس الوقت، شأنه في ذلك شأن إخوته في قيادة تواصل وفي قاعدته الصلبة، فكلهم "عَوْفِيُّ" السمات:
ثياب بني عوف طهارى نقية***وأوجههم عند المشاهد غُرَّانُ
لدي ملاحظات في سياق الحديث الدائر حول مؤتمر تواصل الذي شكلت لجنته قبل أسبوع، والتي أراد بعض المغرضين قصدا وبعض الطيبين غفلة حجب كثير من محاسنه بتضخيم حسنة المادة التي تفرض على الرئيس جميل –وهو فيما أعلم ليس من هواة المناصب ولا المحتاجين لها- أن يتنحى عن رئاسة الحزب تاركا مكانه لأحد إخوته الذين رفعوا معه الراية منذ أيام الشباب وخاضوا معه مزالق الطريق بثبات وحملوا شعار:
الكفوف في الكفوف***فاشهدوا عهودنا
الثبات في الصفوف***والمضاء والفنا
وهي بالمناسبة مادة قانونية "حسنة الصيت" تستحق التضخيم والتنويه في سياق محلي سياسي لا تعرف أحزابه ولا جمعياته التناوب في المسئوليات، بل إن أعرق أحزابه لا يكاد يثني أنملة واحدة من يده في عد مؤتمراته ولا جمعياته العمومية.
ليس من الغريب أن يتفاجأ كثير من أهل تواصل بالتزام الحزب بنص هذه المادة –وفي وسعهم أن يلتفوا عليها ولن يعدموا حيلة قانونية أو حجة تبريرية-، فهم أبناء هذا المجتمع الذي اعتاد أن يحفظ أطفاله أسماء قادتهم الرسميين والشعبيين ثم تشيب رؤوسهم ونفس الأسماء هي التي تقودهم، والعادة حجاب –كما يقول القوم-، وتغيير العادة جالب للنفور، هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فإنه يستغرب من أهل تواصل أن يثيرهم هذا الالتزام بالنظم والقوانين الداخلية للحزب، وهم الذين تعودوا على ذلك، فكم مرة أزاحت القوانين والناخبون رئيس فيدرالية أو قسم لحزب تواصل وتحول فلان من موقع إلى آخر دون أن يقع ضجيج، وهي التزامات وتغييرات تعصف أمثالها بالأحزاب والهيئات من حولنا صباحا ومساء.
أتذكَّر أن كثيرين ذهبت بهم الظنون كل مذهب أيام المؤتمر الأخير لحزب تواصل، وكم سمعنا حينها عن تيارات وتوجهات قبلية وجهوية وفكرية داخل الحزب ستعصف بالإسلاميين وتمزقهم شر ممزق، وكم لمحت في وجوه كثير من المغرضين والمشفقين الترقب لخبر الشقاق الذي تصوروه كائنا أو تمنَّوا على الأصح أن يكون، وكم كانت دهشتهم كبيرة حين خرج المؤتمر دون أن يجدوا من يعرب لهم عن تذمره.
لا يعني هذا أن أهل تواصل ليسوا بشرا، بل هم بشر فيهم الظالم لنفسه والمقتصد والسابق بالخيرات بإذن الله، ولكن ميزتهم أن لديهم مؤسسة بنوها على أسس متينة مستقلة عن الأفراد والجهات والقبائل، وبناؤها المتين سيعصمهم بإذن الله من الانهيار الذي يتوقعه من لا يعرف كنه تواصل.
أيها المغرضون والمشفقون
1 ـ تواصل مؤسسة قارة راسخة تحكمها نظم وقوانين وإجراءات اتفق أهله عليها وجعلوها في مرتبة الإلزام والتزموا بها، وليس ملكا لشخص ولا لجهة ولا لقبيلة، إنه ملك للمؤمنين بفكرته ومنهجه ورؤيته، ذلك هو السر الذي يغيب عن كثيرين.
2 ـ سيسمح التناوب اللازم على رئاسة تواصل بانتخاب قائد جديد له، وسيبهر أبناء الحزب وأعداءه بأدائه ووفائه ونقائه، وسيقول السفهاء من الناس حينها: أين كان تواصل يخفي هذا العبقري البنَّاء، وسيقول أبناء الحزب في غبطة وسرور: لم نر عبْقريا يفْري فريَّه، وسيقولون —بعد انتهاء مأموريته كما يقول بعضهم الآن–: من لنا بعد فلان بمثله!
هكذا هم دائما يأسفون على فراق قادتهم، لأن الواحد منهم ما إن يرفعونه قائدا لهم حتى يكشف عن معدنه النقي ويأخذ نفسه بأشد العزائم فتراه خلقا آخر غير الذي كنت تعرفه أمس.
ثم إن من أسرار ذلك عندهم أن أمرهم شورى ورأيهم مشترك، فالقائد بهم قوي أمين، لا يخذلهم في موقف ولا يتركونه وحده في ميدان.
3 ـ سيعرف الجميع في الرئيس محمد جميل منصور بإذن الله مثال الرجل الشهم الذي يتقلد المناصب دون فرح بها، ويتركها دون أسى عليها، وسيكشف التنحي صدق إخلاصه للفكرة الذي طالما أخفاه موقعه رئيسا للحزب، وذلك حين يراه الناس يعمل من موقعه المنتظر خارج رئاسة الحزب جنديا مطيعا، حينها سيعرف الناس أن حزب تواصل ليس تجمعا للباحثين عن الشهرة أو الساعين للألقاب.
4 - لن يصاب حزب تواصل بأزمة في القيادة ولا بارتباك في المواقف —حسب رأيي—، والسبب بسيط جدا، إن مواقف تواصل وقيادة تواصل لم تكن بيد فرد ولاجهة ولا قبيلة، بل كانت المؤسسة هي التي تتخذ المواقف وتمنح صفة القيادة التمثيلية، والمؤسسة باقية ولا يضرها تناوب القادة، والذي يرون أنه ستكون هناك أزمة قيادة أو مواقف بعد تنحي الرئيس جميل، إما أنهم لا يعرفون تواصل، وإما أنهم يقولون ما لا يعتقدون، وإن من أكبر خصال القيادة في الرئيس محمد جميل منصور —وهي خصال كثيرة ضافية— هي أنه يدافع عن رأي الشورى المؤسسية وإن خالفت رأيه الشخصي بنفس الحماس الذي يدافع به عن رأيه الذي كان يقترحه قبل حسم القرار، وهي ميزة تندر في بني الإنسان.
5 - وهذه هي الأهم، سيقدم حزب تواصل درسا في التناوب السلمي السلس المرن على القيادة، وسيعلم غيره من الأحزاب والهيئات الرسمية وغيرها أن في الدنيا بشرا لهم نوازع ومطامح، لكنهم يملكون من التضحية والإخلاص والوعي ما يجعلهم يؤثرون المصلحة العامة على المصلحة الخاصة، والمكاسب الوطنية والحزبية على المناصب الشخصية.
أعرف أن هذا التناوب المرتقب سيحرج كثيرين من قادة الأحزاب والهيئات الوطنية، كما يحرج الرئيس الموريتاني أن يتنحى رئيس طواعية وفق القانون في أي صقع من البسيطة.
الدكتور الشيخ أحمد البان