بقلم: عبد الفتاح ولد اعبيدن المدير الناشر ورئيس تحرير صحيفة الأقصى
متى بدأ التجاذب الحاد في موريتانيا المعاصرة، أظن ذلك حدث منذ 10 يوليو 1978، عند وصول أصحاب الخوذات والأرجل الثقيلة لدفة الحكم.
ورغم خسائر حرب الصحراء الغربية، التي أقحمنا فيها بعض الجوار الإقليمي، وخاض فيها مرغما أو محرجا ربما الراحل المختار ولد داداه رحمه الله وتجاوز عنه.
إلا أن ما سببته حرب الصحراء من ضعف اقتصادي حاد وخسائر ثقيلة في الأرواح، خصوصا إذا وضعنا في الاعتبار قلة شعبنا الغالي وقتها، حوالي مليون ونصف نسمة فقط.
أقول لكن ما جلبته الأنظمة الانقلابية المتعاقبة من ويلات وانهيار قيمي شامل، مهما ادعت من إنجازات يستدعي دائما الفحص والمراجعة، أمر يفزع المتأمل الصادق الجريء المستقل، وهي صفات ضرورية في هذا المقام التقييمي لرؤية الحق في هذا الباب، والحق أحق أن يتبع، لأنه باختصار أصلح للدارين.
وعود على بداية السياق الراهن، أقول لا داعي للتساؤل متى بدأ التجاذب، في العهد الراهن والمنعطف الحالي، لأن فرض التعديلات الدستورية على رأي البعض، يكفي ليتولد عنه احتقان آخر وانسداد يستحق التشريح والمعاينة والمكاشفة.
وإن تبعه في فترة غير بعيدة، تعديل آخر، على مستوى الجمعية الوطنية، فذلك أدعى للتخوف المشروع الزائد.
أما إذا تغلب الحكم الراهن وفرض المأموريات المفتوحة أمرا واقعا، واستوت السفينة على الجودي نسبيا، ولو شكليا بالنسبة لحال سفينتنا الخاصة محليا، على خلاف وضع سفينة نوح عليه السلام، فإن هذا الاستواء بالنسبة لحالتنا، يحمل بذور الانفجار والتفكك الراجح، إن لم تواكبه إجراءات كثيرة وتنازلات متبادلة بين الضفتين، الموالاة المتغلبة عمليا والمعارضة المكسورة ظاهريا.
فالاستقطاب والتجاذب سيكون سيد الموقف، فيما بعد تمرير التعديلين "الغازيين"، المفروض للتو والمنتظر خلال فترة متوسطة غير بعيدة.
أجل تعديلين "غازيين"، لأن أطماع البعض داخليا وخارجيا، لا يمكن أن تنفك عن الأمل في استخراج هذا الغاز المسيل للعاب، من منطقة بحرية حدودية، متاخمة لحدودنا مع الجارة السنغال، التي يسهل تحريك الاستهداف من خلالها، لأنها أقدمت على ذلك في وقت سابق، ووظفت في ذلك، قبل الغاز، فكيف لو بدأ التدفق الفعلي؟!
هذا التجاذب والتدافع، المتوقع أن يتراوح بين الخطر الحاد والمتوسط، إلى أن يغادر الجيش بصورة مباشرة أو غير مباشرة دفة هذا الحكم الفتنة.
قال الله تعالى: "إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولا".
فيما سيظل ما بعد إلغاء قفل المأمورية، ولو حكم عزيز، يطبعه تصاعد هيمنة المؤسسة العسكرية، أكثر مما سبق في أيام عزيز ما قبل إلغاء القفل الدستوري، وكذلك في هذا الجو المنتظر بعد إلغاء القفل سيستشري استغلال أقاربه، لهذا المدى الزمني من البقاء في السلطة.
والسلطة إذا طال فيها فرد مع جماعة تستغل نفوذه طبعا، من داخل كيان ما، عسكري أو اجتماعي أوغيره، فستتضرر الأغلبية المهانة المغبونة، وربما يزداد الاحتقان إلى حد الانفجار، على أنماط وظواهر متعددة، وأخاف أن يصبح من سوى العسكر وأبناء عمومة ولد عبد العزيز، في تلك المرحلة شبه "الملكية" على رأي البعض، "بدون" أو مواطنون من الدرجة الخامسة إن لم تتخذ إجراءات وقائية، رغم صعوبة الوقاية التامة والتفادي الكامل في هذا المنحى المزعج الظالم.
إن القول بحجة تغليب الاستقرار الهش على انهيار الكيان الموريتاني برمته، قد لا يكفي لتبرير وتمرير الحكم ما بعد فتح المأموريات العبثية، ولو اضطررنا لذلك - لا قدر الله- مخافة النماذج العربية الحالية في هذا الصدد والغارقة في الإسفاف وهبوط مستوى الذوق الإنساني، المتمحض كراهية متبادلة وقتلا مروعا لا يماثل أحيانا ما سبق في تاريخ الإنسانية المتناحرة المتصارعة باستمرار، وهذا ديدنها في أغلب حلقات التاريخ البشري، منذ قصة ابني آدم، هابيل وقابيل" وإلى اليوم.
أجل لا لحكم مفتوح بحجة درء فتنة متوقعة فحسب، ولم تحصل بعد ميدانيا، ما دامت الاحتجاجات السلمية الحضارية، قد تخلصنا من بعض أسباب الإصرار على العبث بالدستور، وربما بكل شيء لاحقا في مجال المشروع الديمقراطي والكرامة الإنسانية وتكريس سلب المواطنة المتساوية، والقوت الملوث، وإنما هذا الأفق القاتم المفعم بالتوقعات المتفاوتة بين الإرباك والإخافة، يجعلني أكرر الدعوة للتأمل والحيطة القصوى.
وإن كان لابد فاستقرار هش وعافية ناقصة، مع عسكري متغلب أو مدني مرشح، يحكم بالوكالة، غير المأمونة البقاء لوقت أطول، خير مما يعيشه غيرنا بعد انتكاسة الربيع العربي في اغلب دوله، وسلامته نسبيا في النموذج التونسي الذي كلف تنازلات هائلة، لم يفهمها أو لم يأمنها على الأصح قطاع عريض من الإسلاميين في مختلف بقاع الدنيا.
المعارضة عندنا لم تبلغ بعد درجة القدرة على فرض كثير من أطروحاتها الفكرية والتنموية النيرة أحيانا، لأن الجيش لا يقبل الإذعان في الوقت الراهن، بسبب مصالحه في الحكم منذ 1978 وإلى اليوم، إلا لأحد أبنائه وخريجي صيغته الأحادية الأمر، أو مرشح من طرفه وذلك جربوه من قبل، ولن يكرروه، بسبب تعجل المدنيين على تنفيذ رغبات الاستقلال عن المؤسسة العسكرية.
فالنقص في الطابع الجمهوري لدى مؤسستنا العسكرية، قد يمنعها مؤقتا من مغادرة ساحة النفوذ والحكم، خصوصا في ميادين كثيرة من أهمها الوظيفة الأولى في الدولة، الرئاسة.
ولا غرابة في وقت لاحق ما، إن تفهمت المعارضة الراديكالية الدرس المر المهين، إلغاء قفل العهدتين الرئاسيتين، وفرض حكم "شبه ملكي"، عبر سنوات قادمة على الأقل.
المعارضة إن تفهمت، وهذا مستبعد، قد تلتقي مع المتغلبين العسكر في نقطة تعايش هش، عبر حكومات ائتلافية، قد تخدم البلاد، أكثر مما قدمت الحكومات المحلية الاستبدادية الأحادية الطابع والمشرب.
وعموما التأمل والتفهم والتفاهم والتعايش رغم الاختلاف، ولا مانع من مصاحبة احتجاجات سلمية حذرة.
أقول هذا على وجه مرجح عند البعض – شرعا وعقلا – أفضل من الدخول في نفق مظلم دامي ممزق.
وفي الختام أذكر بمقالة الرئيس السابق معاوية ولد سيد أحمد للطايع، فقد حكى لي قائد سابق لكتيبة أمن الرئاسة "بازب"، ولا أعني الرئيس الحالي محمد ولد عبد العزيز، أن معاوية قال له "إذا حدثت قلاقل في البلد، فالمؤسسة ذات التنظيم، القادرة على حسم هذه القلاقل هي المؤسسة العسكرية".
وربما نسي معاوية أو غيره من عسكرنا، والعساكر في عموم العالم الثالث، أن الاستقرار لا يستتب بالردع فقط وإن كان مهما في بعض اللحظات والمنعطفات، على غرار قول عثمان "ذي النورين" رضي الله عنه "إن الله ليزع بالسلطان ما لا ليزع بالقرآن".
لكن المقاربة الأمنية الخاطفة أو الدائمة، لا تمثل شيئا بدون العدل.
فالدولة تستقيم على الكفر أحيانا ولا تستقيم على الظلم إطلاقا، مهما أوجعت ظهور الرعية وبالغت في التخويف أو الترغيب.
فالنجاح في تسيير الدولة، عبر خليط سحري متوازن بين هذا وذاك وبالخصوص حسن الصلة بالله والتشبث بعروة العدل.
وأكرر دائما، السعيد من اتعظ بغيره.
العرب أشعلوا فتن الصراع على كرسي الحكم، فغرقوا في الدماء والمآزق، والنصارى طبقوا العدل ولو نسبيا على الصعيد الداخلي في بعض دولهم، وجانبوا التقوى، فحرموا البركة، والعياذ بالله تعالى.
قال الله تعالى " وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ "، وفي رواية للآية التالية الذكر أمرّنا بتشديد الراء بدل أمرنا بسكونه، فكثرة الاختلاف على أمور الحكم، وطلب الكل للواجهة والقيادة، وهو لا يقدر عليها أحيانا، وهي في المبدأ تكليف قبل أن تكون تشريفا، أقول هذا الجو المشحون بكثرة المترشحين للإمارة والطالبين لها بغير حق، جالب أحيانا للاختلاف الحاد والشحناء الممزقة.
قال الله تعالى "وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا" صدق الله العظيم.
ونختم دائما مذكرين، لله الأمر من قبل ومن بعد.
ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
ما من صواب فمن الله وما من خطإ فمني.
واستغفر الله العظيم وأتوب إليه.