لم يستطع الرئيس عزيز في خرجاته الإعلامية الأخيرة، أن يستقرئ اللحظة التاريخية للخروج من الباب الواسع كرجل حكم البلاد فترة من الزمن وسيبقى له ما له وعليه ما عليه، بل فضل ببساطة المجازفة والتهرب.. من خلال التلاعب بالألفاظ والاستثمار في المجهول.
في سؤال موجه له من طرف إذاعة فرنسا الدولية عما إذا كان ينوي مغادرة السلطة سنة 2019؟ رد الرئيس عزيز بشكل متلكئ بأنه يجب أن ننتظر ذلك التاريخ لكي نرى ماذا سيفعل. أما عند سؤاله هل يفكر في خليفة له؟ فقد اعتبر بأن لديه الوقت الكافي للتفكير في ذلك الاحتمال، مؤكدا أنه على أية حال سيحترم الدستور وأن ذلك هو الأساس.
أما مقابلته مع قناة فرانس24، فقد صرح خلالها بأنه لا ينوي الترشح للانتخابات الرئاسية سنة 2019 ، لكنه سيدعم مترشحاً لتلك الانتخابات.
لكن الرئيس عزيز سيتردد كثيرا بعد هذين التصريحين. وهو ما عكسته قبل انطلاق حملة التعديلات الدستورية المثيرة للجدل، بعدة أسابيع، تصريحات المقربين سياسيا من الرئيس، التي لم تعد تخفي نية النظام المبيتة للاحتفاظ بالسلطة إلى إشعار آخر، مهما كلفه ذلك من ثمن، بل ومهما كلف البلاد والعباد من ثمن، وهو الأدهى والأمر.
وبهذا المنطق، ستدخل البلاد لا محالة في عنق الزجاجة مرة أخرى، بل ربما ستتطور الأمور -لا قدر الله- إلى مأساة جديدة في تاريخ هذا البلد المسكين، الذي لا ذاكرة لشعبه ولا مروءة لنخبه، التي تتبارى أغلبيتها في ممارسة الدعارة السياسية على المكشوف وبشكل مقزز، مقابل تقاسم الحظوة والنفوذ والمنافع، بعيدا عن كل معاني التضحية والالتزام بالمصلحة العامة وخدمة المواطنين.
لكن، كيف لهذا الشعب ولهذه النخب أن تنسى أو تتناسى بأن المبرر الأساسي للانقلاب العسكري في 3 أغشت 2005 لم يكن سوى ضرورة تعديل الدستور من أجل "حصر" عدد المأموريات الرئاسية وتحصين المواد المتعلقة بها، وكذا التأكيد على أهمية التداول الديمقراطي للسلطة، كما هو واضح من البيان الذي أصدره آنذاك المجلس العسكري للعدالة والديمقراطية،حيث نص على أن "القوات المسلحة وقوات الأمن الوطنية قررت بالإجماع وضع حد نهائي للممارسات الاستبدادية للحكم البائد التي عانى شعبنا منها خلال السنوات الأخيرة والتي أدت إلى انحراف خطير أصبح يهدد مستقبل بلدنا"، كما التزمت القوات المسلحة أمام الشعب بأن "تخلق الظروف المواتية لديمقراطية نزيهة وشفافة، وأن تمكن المجتمع المدني وجميع الفاعلين السياسيين أن يشاركوا فيها بكل حرية".
كيف لهذا الشعب ولهذه النخب أن تنسى أو تتناسى بأن المادة 99 من الدستور تنص في فقرتها الأخيرة على أنه "لا يجوز الشروع في أيّ إجراء يرمي إلى مراجعة الدستور، إذا كان يطعن في كيان الدولة أو ينال من حوزة أراضيها أو من الصبغة الجمهورية للمؤسسات أو من الطابع التعددي للديمقراطية الموريتانية أو من مبدأ التناوب الديمقراطي على السلطة والمبدأ الملازم له الذي يحدد مدة ولاية رئيس الجمهورية بخمس سنوات قابلة للتجديد مرة واحدة.(...)"
كيف لهذا الشعب ولهذه النخب أن تنسى أو تتناسى أن رئيس الجمهورية أقسم على احترام الدستور وعدم تغيير ثوابته بما فيها المأموريات، حيث تبين المادة 29 من الدستور في فقرتها الثالثة نص اليمين الذي يؤديه الرئيس بعد انتخابه، وهو "أقسم بالله العلي العظيم أن لا أتخذ أو أدعم بصورة مباشرة أو غير مباشرة أية مبادرة من شأنها أن تؤدي إلى مراجعة الأحكام الدستورية المتعلقة بمدة مأمورية رئيس الجمهورية وشروط تجديدها الواردة في المادتين 26 و28 من هذا الدستور".
لقد ظهر الرئيس عزيز أثناء حملة الاستفتاء الحالية كمن يحاول -من خلال أحاديثه المختلفة- التمسك بالسلطة ولو اعتمادا على قشة مهما كانت هشة وضعيفة من قبيل السهر على حماية المكتسبات ومواصلة الإنجازات. وهي على الأقل مسوغات فيها الكثير من النظر.
لكن، كيف لهذا الشعب ولهذه النخب أن تسمح للرئيس بأن يتناول بالقدح والقذف والتشهير مؤسسة دستورية مازالت قائمة هي مجلس الشيوخ؟ أليس في التعريض بمجلس الشيوخ - بغض النظر عن المواقف السياسية لأعضائه- احتقار لمؤسسات الدولة ولسيادتها وازدراء صارخ بقوانين وتشريعات الجمهورية؟
كذلك، لقد أعطى الرئيس عزيز دليلا قاطعا لمبررات تخوف المعارضة غير المحاورة من الأهداف التكتيكية للحوار وحرصها على مقاطعته، حيث اتضح الآن للجميع بأن الدعوة للحوار- الذي جرى فعلا بين الأغلبية وجزء يسير من المعارضة ولم يكن شاملا كما أن مخرجاته كانت هزيلة للغاية- إنما كان خدعة أو فخا أكثر مما هو حوار حقيقي من أجل معالجة جدية لأزمات المشهد السياسي الوطني.
لن يفوت أحدا هذه الأيام أن الرئيس -في أحاديثه أثناء زياراته الميدانيةعن مبررات التعديلات الدستورية- قد قلل قطعا من أهميتها ومن الزخم الذي أراده لها، بل وألقى بظلال من الشك على الهدف الحقيقي منها، والذي يبدو بأنه لا يتعدى تكتيكيا إلغاء مجلس الشيوخ، الذي تجرأ على إسقاط المسار البرلماني لإقرار تلك التعديلات، وهو ما اعتبره الرئيس تحديا شخصيا له، بدون أن يعرف أحد بالضبط لماذا؟ وكيف؟ وإلا.. فما معنى إلغاء الأعباء المالية لمجلس الشيوخ بادعاء الحرص على عقلنة تسيير موارد الدولة، ثم الإعلان اليوم عن استحداث 40 مقعدا إضافيا في الجمعية الوطنية؟ ألم يكن عدد أعضاء مجلس الشيوخ 56 فقط؟ فكيف يستقيم هذا الطرح؟
أما قصة تغيير العلم وإضافة خطين أحمرين كتقدير للمقاومة ورمز لشهداء الوطن فلم تقنع أحدا لا في الأغلبية ولا في المعارضة، وستظل مجرد قميص عثمان للمناورة، وأما مشروع المجالس الإقليمية فلن تكون -في أحسن حالاتها- سوى مجالس بلدية إضافية لا تملك سوى أن"تمد أياديها" تستجدي الدولة كما قال الرئيس عنها يوم أمس. ومن كان يتوقع لها صلاحيات تنفيذية وإمكانيات بشرية ومالية ولوجستيكية لكي تتمكن من تحقيق التنمية المحلية المتوازنة، فعليه أن يقرأ السلام على المشروع منذ الآن.
ثم جاء مسلسل مضايقة أعضاء مجلس الشيوخ، خاصة ما تعرض له السيناتور محمد ولد غده، من تنكيل وابتزاز وهتك للخصوصية عبر سجنه التعسفي والاستيلاء على محتويات هواتفه الشخصية، وتسريب اتصالاته وصوره الخاصة، لتدخل البلاد بذلك في دهاليز الدولة الشمولية لـ "الأخ الكبير" من خلال الأساليب الوحشية، ومصادرة الحريات العامة والخاصة والتضييق على الرأي الآخر، ضمن مشهد يذكرنا بأحداث وشخوص رواية 1984 لجورج أورويل، التي صورت مجتمعا شموليا يخضع لدكتاتورية فئة تحكم باسم "الأخ الكبير" الذي يمثل الحزب الحاكم والدولة التسلطية في بلاد لا تهدأ فيها الرقابة الحكومية والتلاعب بالجماهير، حيث يعمل بطل الرواية في وزارة الحقيقة المسؤولة عن الدعاية وتغيير الحقائق بحيث تتفق على الدوام مع ما يعلنه الحزب الحاكم، بناء على تعليمات تحدد التصحيحات المطلوبة، وتصفها بالتعديلات بدل التزييفات والأكاذيب.
وهاهي بلادنا التي كانت منذ سنوات قليلة فقط، تحلم بالديمقراطية والمواطنة وسيادة دولة القانون، هاهي اليوم للأسف تتقدم بسرعة فائقة نحو شبح "الأخ الكبير" الذي لا يريد أن يبنى سلطته إلا على الإستبداد والقمع وتزوير الوقائع باسم الدفاع عن الوطن والشعب، تماما كما صورت ذلك عبقرية جورج أورويل منذ 68 سنة خلت.
فهل بدأ نظام الرئيس عزيز يحصي على الناس أنفاسهم ويحوّل العلاقات الإنسانية والحب والزواج والعمل والأسرة إلى علاقات مراقبة، تجرد المجتمع من أي تفرد وتخضعنا جميعا لنسق واحد بلا ملامح؟ أليس هذا من صميم عمل وزارة الحب في دولة "الأخ الكبير"، تلك الوزارة التي تعني بحفظ القانون والنظام من خلال التعذيب وغسيل الأدمغة.
ربما كانت حملات الترهيب لحمل الموظفين والعمال في الحضر وسوق القبائل والتجمعات القروية في الريف للتسجيل في اللوائح الانتخابية والتصويت قسرا بنعم على التعديلات الدستورية- إضافة إلى تسريب مكالمات السيناتور ولد غدة- إيذانا بعودة البلاد إلى نفق مظلم.. لا يمكن لأحد أن يتنبأ بالعواقب الكارثية التي ستترتب عليها.
محمد المخطار شنقيطي