لم نكد نصدق أن السجين محمدو ولد صلاحي (المعتقل الوحيد الذي سلمته بلاده للولايات المتحدة) أصبح حرا يعيش بيننا ، وأنه استطاع بقوة إيمانه وصبره وقناعته بعدالة قضيته أن ينتزع حريته، ويكسر القيود ليخرج من معتقل غوانتنامو سيئ الصيت، لم نكد نصدق هذا حتى فاجأنا (الحاكمون علينا) - ولكي لا نعيش اللحظة – بمنعه من أبسط حقوقه الدستورية والقانونية وهو الحصول على بطاقة "مواطنة" تثبت انتماءه لوطن أحبه ، ولد فيه ونشأ فيه ؛ في ظلم صارخ يؤكد أصحابه أن معاناة الرجل وإن ظهرت "هناك" فإن أصولها وجذورها كانت ولا تزال هنا!.
يشير بن خلدون في نظريته التعاقب الدوري إلى "أن التاريخ يسير في دورات متتالية ومتشابهة ، بحيث تعود الأحداث السابقة من جديد بأشكال متقاربة ، وتترتب عليها النتائج نفسها"... فقبل تسليم محمدو بداية الألفية الثالثة للأمريكيين عاش في وطنه بين الحرية واللاحرية، المواطنة واللامواطنة ؛ يستدعى يوما لإدخال الشبكة العنكبوتية إلى القصر الرمادي ، وفي اليوم التالي يستدعى للتحقيق في إدارات الأمن (المحققون في الغالب أجانب). صورة تكاد تكرر اليوم، وإن باختلافات بسيطة في تفاصيلها. فبعد الإفراج عن محمدو استقبلته الحكومة الموريتانية، معلنة عدم متابعته في أي ملف قضائي، وأن جهودها كانت السبب الرئيسي في عودته إلى بلده وانتزاعه من الأمريكيين - فمن عادة الجبناء(السياسيون) أن يسرقوا ثمار جهود الآخرين – (والآخرون هنا طبعا على رأسهم محمدو الذي بشهادته "يوميات غوانتنامو" حرك الدنيا وعرى وجه الحضارة الغربية الزائف) . ولكن الحكومة الموريتانية التي صدعت كتائبها (الإعلامية والأمنية) رؤوسنا "بنجاحها الدبلوماسي في عودة محمدو" (بالمناسبة لا يهمنا كيف جاء محمدو بقدر ما يهمنا أنه جاء لله الحمد)؛ منعته أبسط حقوق المواطنة التي تكفلها القوانين المحلية والدولية وتستدعيها المكارم الأخلاقية والمقاصد الشرعية .
فالرجل الذي ظلمه بلده "وظلم ذوي القربى أشد مضاضة..." وأسلمه إلى أيادي الظلم والغدر ، مكث بين "أنيابها" خمسة عشر (سنة) تحت التنكيل والتعذيب؛(فقد خلالها والدته وأحد أشقائه)، لم يكد يصدق "حريته " حتى وجد نفسه مواطنا بلا هوية وسجينا بدون أغلال.. عاد صلاحي إلى وطنه بعدما قرر أن ينسي - أو يتناسى - كل ماض له علاقة بظلمه وتسليمه؛ حالمًا بمستقبل يعمه الأمن والسلام ليعيش بقية حياته بين أهله وفي أحضان وطنه. ولكن القوم (هم القوم): العقلية هي ذاتها ، والتفكير هو ذاته ... وعلى قاعدة مانديلا (بتحوير وتدوير): "إذا خرجت من السجن في نفس الظروف التي سنجت فيها" فتوقع نفس الممارسات والمضايقات التي كنت تتعرض لها.
لم يجسد صلاحي أيقونة من أيقونات الحرية التي تكسرت عليها عنجهية الظلم والطغيان - في العصر الحديث - فحسب ، ولكنه مثل قيم الأنبياء والصالحين ، فأحيا شفقة النبي موسى على قومه (رب اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون)، وعفو يوسف عن إخوته (لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين) ورحمة محمد صلى الله عليه وسلم بأمته (اذهبوا فأنتم الطلقاء..) ، ومع ذلك لم يجد – حتى الآن - غير الاستضعاف، والتنكر لجميل عفوه وسماحته ، وكان رد الاعتبار له بحرمانه من أوراق "تثبت" حرصه على الانتماء لوطن ظلمه كثيرا ولم يزده ذلك إلا حبا لأهله وتعلقا بسمائه وأرضه. بل قوبل ببلادة الحاكم، وخذلان السياسيين ، وصمتٍ الحقوقيين ، وتعتيم الإعلاميين؛ ليصبح الجميع شريكا في ما تعرض ويتعرض له الرجل.
إن ما عاناه صلاحي؛ ويعانيه اليوم من ظلم واستضعاف وحرمان يستدعي من الموريتانيين هبة تكفر عن الماضي ، وتقيم (حلف فضول) يكون أصحابه "يدا واحدة مع المظلوم على الظالم حتى يؤدى إليه حقه" وينال حقوقه وحريته كاملة ؛ "فالحرية – على لغة مانديلا – لا تعطى على جرعات ، فالمرء إما أن يكون حرا أو لا يكون".