تمنى المحامي محمدن ولد اشدو، عدم التمديد لرئيس المحكمة العليا الحالي، معبرا عن الأمل في أن يهين مكانه من يمكن التفاهم معه، فيما كشف تفاصيل مثيرة عن ملف قضائي شائك.
وقد جاء ذلك، من خلال موضوع سرد فيه واقعة تتعلق بملف يتعهد فيه أمام القضاء الموريتاني، قائلا "الملف رقم 33/016 لدى الغرف المجمعة بالمحكمة العليا ملف خاص جدا، لأنه يعني ببساطة غصب مصنع بملايين الدولارات يملكه مستثمرون روس من طرف شريك موريتاني لم يدفع أوقية واحدة، وإخراج مالكيه منه منذ يوم 8 /4/ 014 بموجب قرارات قضائية استعجالية،
وغلقه، ثم الاستيلاء عليه ونهبه واستغلاله على رؤوس الأشهاد بدون حق شرعي إلى غاية 5 /8/ 016 حيث تم رفض تسليمه لمالكيه الذين حكمت لهم به محكمة استئناف انواذيبو حكما نهائيا، ليغلق من جديد بقرار استعجالي من المحكمة العليا المتعهدة بموجب طعن بالنقض.
وقد وصل ملف القضية إلى انواكشوط قادما من انواذيبو وبدأت إجراءات الطعن حيث وضعت المذكرات وتم وضع تقرير المستشار المقرر، وأحيل إلى النيابة برسالة بتاريخ 19 /12/ 016 لإبداء الرأي، ليعرض في جلسة الغرف المجمعة في 27 /2/ 017.
ومنذئذ ونحن نراجع كتابة ضبط المحكمة العليا للتأكد من جاهزية الملف للعرض فتقول لنا إنه لا يزال لدى النيابة لإبداء الرأي ضمن مجموعة ملفات. لكننا لما اتصلنا بالنيابة وأكثرنا من الإلحاح عليها فاجأتنا بأن الملف ليس من بين الملفات الموجودة لديها خلافا لما أفادت به مرارا كتابة ضبط الغرف المجمعة. وعندما قمنا بالبحث لدى كتابة الغرف المجمعة وجدنا أن الملف ما يزال - رغم ضخامته- قابعا في دواليبها دون أن نعرف سببا لذلك.
وانطلق الملف بتاريخ 15 /2/ 017 في رحلة لم يعد منها إلى الآن قاصدا النيابة العامة لإبداء رأيها الذي قلما أخذ في الحسبان؛ لا لما يشوبه غالبا من مجافاة للقانون ومن سطحية، بل لأن القضاة اثنان: قاض يحكم ضميره ويتّبع الحق، فهو في غنى عن الاستئناس برأي النيابة ولا يلوي عليه. وقاض من طينة أخرى يرى أن هواه أحق بالاتباع؛ خاصة إذا أمن العقاب.
وتعهدت لنا النيابة بأن الملف لن يتأخر عندها، ومن عادتها في عهدها الجديد عدم حبس الملفات. وبقينا ننتظر أن تفي بعهدها. ولكن هيهات. واقترب أجل الجلسة فوعدتنا النيابة من جديد بأن الملف سوف ينتهي إعداد الرأي فيه ويحال يوم الاثنين 20 /2، ثم يوم الثلاثاء 21 /2، ثم يوم الأربعاء 23 /2 حيث هو آخر أجل ضربته كتابة الغرف المجمعة لتلقي الملفات لأنها ستختم جدولتها زوال يوم الخميس. ولم تف النيابة العامة بوعدها الصريح الذي قطعته لنا بإنهاء محنة الملف يوم الأربعاء. وفي صباح الخميس باكرنا مكاتب النيابة العامة فجدد السيد المدعي العام توجيه أوامره الصارمة لنائبه الأول الذي كان يجلس بجانبه بضرورة إنهاء إعداد رأي النيابة أيا كان وإحالة الملف فورا إلى كتابة ضبط الغرف المجمعة. فقلت لهما مداعبا إني سوف أبقى معتصما في مكاتب النيابة حتى يتم إطلاق سراح الملف، وإن عليهما أن يتخذا التدابير المناسبة من حيث تحرير الملف ومن حيث الضيافة، فالتزما معا بذلك. ومكثت يوم الخميس كله في أروقة ومكاتب النيابة العامة أذرع الردهة الممتدة بين مكتبي الرجلين جيئة وذهابا إلى أن انتهى الدوام على الساعة الخامسة. ولم يجد جديد رغم عكوف المعني على الموضوع وإيهامه لي - مشيرا إلى الحاسوب- بأن الرأي قد تم إعداده فعلا ولم يبق إلا تصحيحه؛ أما الضيافة فلا تحدث عن غائب. وتعهدت لنا كتابة ضبط الغرف المجمعة بإلحاق الملف بالجدولة متى وصل إليها، فباكرنا مكاتب الادعاء العام صباح الجمعة فأكدوا لنا أن المسألة قضاء وقدر وأن الرأي جاهز على شاشة الحاسوب فاستأنفنا من جديد ذرع الردهة الممتدة بين مكتبي المدعي العام ونائبه الأول لعل وعسى. وفي نهاية الدوام خرج النائب الأول واعدا بالعودة وإحالة الملف إلى المحكمة. ولم يعد. فيممنا المسجد في حدود الساعة الثانية آملين أن ندرك نصيبا من صلاة الجمعة، وذلك بعد أن حصدنا تعاطف المدعي العام معنا واستغرابه لما جرى ومكالمته لنائبه عبر الهاتف، ووعده بإحالة الملف إلى الغرف المجمعة صباح الاثنين؛ إما من طرف نائبه الأول، وإما من طرف غيره.
وفي يوم الاثنين، يوم جلسة الغرف المجمعة، تخلف السيد المدعي العام بسبب مرض عارض، ولم يأمر غيرَه بشيء. وتعلل نائبه، في حضور نواب آخرين، بغياب رئيسه الذي يبدو أن إحالة الملف إلى المحكمة العليا أصبحت من اختصاصه وحده في إشارة إلى الجهات العليا غالبا ما يتعلل بها بعضهم لتبرير تصرفات خارقة!
وكان خصم موكلينا يصعد السلالم وينزل، وهو في غاية الحبور بنجاحه وفشلنا.
وفي جلسة في مكتب نائب المدعي العام جمعتني صباح هذا اليوم به وبنواب فضلاء آخرين قبل انعقاد جلسة الغرف المجمعة، حدثتهم عن معاناتي ورحلتي مع الملف في أروقة ودهاليز النيابة العامة، وعن الوعود العرقوبية التي قطعت لي مرارا وتكرارا بإحالة الملف وبالقرى، وما آلت إليه الأمور. وفي نهاية هذا الحديث قلت لهم إن رحلتي ذكرتني برحلة الأديب المرحوم سيدي ولد اجاه الذي توجه إلى حي قادم من السنغال يريد صلة القدوم، وقد أوصته أخته بأن يحضر لها "زبلة" بقرة وحيدة لدى الحي لتعالج بنقيعها داء "تيمشي". فكان من قضاء الله أن رفضت زوجة القادم صلة الأديب بشيء، وبات ينتظر أن تتفضل البقرة برجيع فلم تفعل. فقال:
جَيْتْ الْحَيَّ بِيهَا عَـــانِي ** دَايِرْ تَلْمِيدِي مِن گِبْــــلِتْ
لِبْحَرْ جَ دَايِــــــرْ يَكَـانِي ** نَجْبَرْ شِي، لِمْرَ مَا گِبْلِتْ
ابِتّْ امْكَرْسَعْ زَادْ انْحَانِ ** بَگْرِتْهُمْ تِزْبِلْ، مَا زِبْلِتْ!
فضحك السادة نواب المدعي العام، وضحك نائبه الأول حتى كاد يسقط من أريكته الوثيرة.
وبدأت جلسة الغرف المجمعة في جو نكد يطبعه غياب الملف رقم 33/016 عنها. ورافعت النيابة العامة مرافعة حامية الوطيس ظلت خلالها تقوم كلما عرض ملف فتقول: "النيابة تتمسك برأيها الموجود في الملف"، أي ملف!!
تلك كانت حكاية الملف رقم 33/016 الذي حذفه سلطان الجاه والمال من هذه الجلسة آملا أن لا يتم التجديد لرئيس المحكمة العليا الحالي، ويعين مكانه من يمكن التفاهم معه على إبطال حق هؤلاء المستثمرين الأجانب المظلومين.
ترى، أي مصير ينتظر شباب المحامين وغيرهم من المغمورين والمواطنين الذين لا سند لهم غير الحق، ما دمت أنا الذي أفنيت حياتي في هذا القطاع، وأعرفه ويعرفني حق المعرفة، قد تعرضت لهذه المعاملة المهينة وهذه الهزيمة النكراء على يد تاجر شاب؟
وأي مستقبل للاستثمار والتنمية في بلاد هذا عمل جزء من قمة عدالتها، وما خفي أعظم؟
إن العدالة الموريتانية مستقلة سياسيا؛ ولكنها غير مستقلة ماديا واجتماعيا. والقوى المسيطرة عليها أقوى بكثير من الدولة.
فهنيئا لكم أيها المفسدون! ولكن الحرب سجال؛ يوم لك ويوم عليك! وجولة الباطل ساعة، وجولة الحق إلى أن تقوم الساعة".