مساحة إعلانية

     

  

    

  

الفيس بوك

وقفة مع مفهوم "الــفُتُـــوَّة" في المجتمع الموريتاني

يطلق لفظ فتىً على مرحلة عمرية تتراوح بين البلوغ و النضج الكامل اي مابين الثامنة عشرة و الأربعين و قد تتجاوز الأربعين استنادا إلى مانُسب إلى ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: مابعث الله نبيا إلا شابا، و تلى قوله تعالى: "قَالُوا سَمِعْنَا فَتىً يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ".

و قد وردت في القرآن كلمة "فتى" بصيغة المفرد و المثنى و الجمع المذكر و المؤنث، و سأحاول أن أذكر بعض الآيات التي وردت فيها وذلك حسب تسلسل السور:

وردت جمعا مؤنثا في قوله تعالى في سورة النساء:"وَمَن لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَن يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُومِنَاتِ فَمِنْ مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُومِنَاتِ" النساء-24، فتياتكم: إمائكم،

كما وردت مفردا مضافا في قوله تعالى:"وَ قَالَ نِسْوَةٌ فِي الْـمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ" يوسف-29، فتاها: أي عبدها.

و وردت أيضا بصيغة المثنى في الآية 36 من نفس السورة: "وَ دَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ"، فتيان: غلامان،

و قد وردت جمعا مذكرا في الآية 61 من سورة يوسف دائما، قال جل من قائل:"وَ قَالَ لِفِتْيَتِهِ اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ"، فتيته: غلمانه.

و في سورة الكهف وردت أربع مرات:

- جمعا مذكرا في قوله جل و علا في الآية 09:"إِذْ أَوَى الفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ"، الفتية: جمع فَتىً و هو الشاب الكامل.

الثانية في قوله جل من قائل:"إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدىً" ،الكهف-12.

الثالثة: مفردا مضافا في قوله تعالى:"وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَيهُ لاَ أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ" الكهف-59.

و في الأخيرة من نفس السورة، قال جل و علا:"فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَيهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَباً"، الكهف-61.

و لكلمة فَتَيهُ هنا ثلاثة معان:

أولها: سمي بهذا الاسم لأنه كان معه يخدمه؛

ثانيها: سمي بهذا الاسم لأنه لزمه ليتعلم منه و إن كان حرا؛

ثالثها: أنه سمي بذلك لأنه قام مقام الفتى و هو العبد، و في الحديث أنه يوشع بن نُون و ينسب نُون إلى إفراثيم بن يوسف عليه السلام (تفسير ابن كثير).و العلم عند الله.

 

و قد ورد لفظ فَتىً بهذا الشكل في سورة الأنبياء حيث قال جل من قائل:"قَالُوا سَمِعْنَا فَتىً يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ" الأنبياء-59.

و الفتى في لغة العرب تعني الشاب، و لما كان الخدم أكثر ما يكونون فتيانا قيل للخادم على جهة حسن الأدب فتى و ندبت الشريعة إلى ذلك في حديث النبي صلى الله عليه و سلم:"لاَيَقُلْ أَحَدُكُمْ عَبْدِي وَ لاَ أَمَتِي وَليَقُلْ فَتَايَ وَ فَتَاتِي"، فهذا ندب إلى التواضع.

 

و هنا وقفت حائرا في مصدر التسمية عند مجتمع البيظان ذلك أن لفظ فتى في غالب استعمالاته يستخدم للتعبير عن السخرة و الخدمة و التبعية و العبودية في أغلب الآيات المذكورة أعلاه ما عدى الفتية الممثلين في أصحاب الكهف و الفتى نبي الله ابراهيم عليه السلام، لكني عندما أمعنت النظر أكثر في آية سورة الأنبياء التي وردت فيها الكلمة غير مصرفة أو جمعا أو مضافا، و بالرجوع إلى قصة سيدنا إبراهيم عليه السلام، يمكن أن نفترض أو نتكهن أن "البيظان" كانوا يقصدون هذه الآية و ذلك لاعتبارات من بينها أن الفتى الشاب إبراهيم صاحب الحجة الدامغة و المنطق السليم، صاحب الحق القوي فيه، الجسور الذي لا يخاف النمرود و لا قوته و لا ناره و بطشه، المسلح بالمعرفة، بالشجاعة بالقوة في الحق، باليقين بالله و التوكل عليه، صاحب الدهاء و المكيدة و التفكير البعيد؛ حيث كان يقصد بفعلته (تحطيم الأصنام و الإبقاء على كبيرها) أن يُجمَعَ الناس ليؤكد لهم أن كبير أصنامهم بدليل بقائه على قيد الحياة عجز عن إنقاذ صغار الآلهة، حتى أنه عجز عن إنقاذ نفسه عندما عُلقت الفأس في رقبته كرسالة واضحة و ذكية مفادها أن تلك الأصنام لا تستحق العبادة و أن المعبود بحق هو الله الواحد الأحد.

هذا الفتى الذي جمع بين المعرفة و المنطق و الحجة و المكيدة و الشجاعة و النظر الثاقب و البعيد ... هو من يجب أن يحمل أطفال البيظان اسمه تبركا و تفاؤلا، و أن يسيروا على نهجه، لا أن يكونوا أنبياء أبدا بل أن يتصفوا بالحد الأدنى من هذه الصفات و مما يؤكد هذا الطرح تعلقهم بالأنبياء و بالفأل الحسن و السير الحسنة. و قد تنضاف إلى ذلك بعض من خصال الفتى الواردة في سورة يوسف، عزيز مصر الحاكم العادل ذي الحكمة و الدراية العالية بتدبير الشأن العام، بتعبير الرؤيا، نبي الله يوسف عليه السلام الذي صبر و صبر و كان برا ب والده إلى أن كان سببا في توحيد أسرته من جديد و الصفح عن أخطاء إخوته في حقه التي لن يغفرها غيره ان مر بشيء مشابه.

لذا كانت:

الــفُتُـــوَّة في مجتمع البيظان

هي ذلك الوصف الذي يطلق على الشخص الذي تمتع بميزات علمية و أدبية و ثقافية و اجتماعية و تاريخية و ربما فنية أو موسيقية إضافة إلى لياقة بدنية لا بأس بها و مهارة في ركوب الخيل و الإبل هذا دون أن ننسى حضورا مميزا فيما يتعلق بالرماية و اقتناء السلاح و استخدامه لهذا الغرض.

و بالتالي يطلقون صفة الفتى على ذلك الشخص الذي يكون في الغالب في مقتبل العمر او في ريعان او ربيع شبابه  و قد يستخدمون مصطلح: اطْفُلْ و اسْــتَطْــفِيلْ كمرادفين للفتى و الــفُتُـــوَّة، هذا لتمييز سنه، كما يطلقونها عليه كناية عن تضلعه بعلوم غزيرة و ثقافات واسعة و اطلاع كبير بأمور مختلفة تخص ميادين شتى فترى الفتى ملما بالأنساب و التاريخ و خصوصا تاريخ القبائل و البطولات التاريخية، اضافة الى معرفته الواسعة بفنيات مثل طرق التعامل مع القطعان و تربيتها وتنميتها و تمييز وقص اثرها... و تراه ايضا اذا لقي حملة السلاح او ما نسميهم "اهل لمدافع" جريئا و يشارك في الصيد و يصطاد أفضل الطرائد و إذا ورد الناس البئر كان ملما بتقنيات جلب الماء و حفر و صيانة الآبار صغيرها "آشكيك" و كبيرها كا"التومي" او أگلال فأي" في الجنوب أو "بُغَبْرَة " او "النِّصْرِي" او "أَشَكْرَافْ" و "بِيرِيكْنِي" في الشمال

هذا فضلا عن تضلعه بالعلوم الشرعية و قدرته على التعامل الجيد مع ان لم نقل حل عويصها "يزْرِك وَلَّـل إشِلْ الزَّرْكْ أو الشَّلْ الزَّيْنْ" مع إقراضه للشعر برجزه و مجزوئه و تامه و قدرته على الارتجال شعرا فصيحا و شعبيا، و قدرته على التمييز الاعرابي و إلمامه الواسع بالنحو و الصرف و مختلف فنون لغة الضاد، و لا تمانع بعض الجهات من دخول الفتى معترك الفن او الموسيقى بتحفظ حيث يقتصر دوره على المساجلات و اقراض الشعر الشعبي مشاركة في مقاطع غنائية "أشوار" يرددها بعض الفنانين و لا مانع لدى هؤلاء من مدح حنجرة هذا الفنان و صوته و تفضيلهما على غيرهما من الحناجر و الأصوات، في حين يرفض بعض آخر هذا الامر و يعتبره مجونا و  انحرافا.

و قد حاول الكثير من الأدباء و الشعراء تحديد صفات الفتى و مميزاته لكن كلا من هؤلاء يحدد الصفة او الصفات تبعا لما عاشه هو او ما شاهده و اطلع عليه في بيئته، و عليه يظل تعريف الفتى ناقصا لان كل جهة (الجنوب- الشمال- الشرق) تعرفه على طريقتها

يقول المختار حامد مادحا المختار الميداح رحمهما الله:

أَلاَ يَابْنَ مَدَّاحِ الرَّسُــــولِ وَيَا هُوَّهْ=:=

وَ يَا مَنْ مُنَاوِيهِ قَدْ انْهَارَ فِي هُوَّة=:=

شُغِلْتَ بِـحَـمْدِ اللهِ لِلْـــمَـــدْحِ قُـــوَّةً=:=

وَ لاَ حَـــــوْلَ  إلا بـالْإلَـهِ وَ لاَ قُـــوَّة=:=

قَدْ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَنْكَ هُنَا فَــتَــاهُ=:=

وَ أَنَّكَ قَـدْ تَــمَّــتْ لَكَ الْفُـ..هُنَا..تُوَّهْ

أي تمت لك الــفُتُـــوَّة هنا.

و قبل ان نتجاوز إلى شاعر إخر لا بد أن نطرح سؤالا حول المعايير التي اعتمدها المؤرخ و النسابة الكبير المختار ولد حامد لوصف الفنان المبدع المختار الميداح ب "الفتوة"، تلك المعايير التي لم يذكرها و التي اكتفى بالقول إنها محل إجماع، لذا لا طائل من وراء سردها؟

بالتأكيد يستحق الفنان المختار الوصف لإلمامه الواسع باللغة و فنونها كالعروض و الصرف و النحو، اضافة الى إقراضه الجيد للشعر بنوعيه و .. ...الخ. 

و هذا أحد المشايخ الرافضين للفن اشريف سيد احمد الصبار المجلسي يعتزل مجلسا فنيا أُقيم خصيصا على شرفه و يعتذر بأبيات يثني فيها على حنجرة الفنانة فطمة السالمة منت البُبَّانْ حيث يقول: 

لا تَعْجَبُوا من قِيامِي عن مُغَـنِّيَةٍ=:=

إذا شَدَتْ قَالَ رَبَّاتُ الـمَزَامـِرِ كُــمْ=:=

فقد يليقُ بكم ما لا يـــلـــيق بِـــنَا=:=

و قد يليقُ بِنَا ما لا يــلـــيق بِكُــمْ=:= 

 

و هذا ابراهيم أبو مدين يمدح صوت سِيدِي ولد دندني في مقطوعة موسيقية (شور): 

سيدي يَكَانْ اكْبَظْ مَلْهَاهْ=:=

و اسْمَعْ گَوْلُ حَدْ افْهَولُو=:= 

مَانَهُولُو سِيدِي مَــــــالاَهْ=:=

اتْلَ شِي لاَهْ اِنَـــهُٰـــولُـــو=:=

 

و منه كذلك رد العلامة حمدا ولد التاه على الرافضين لتواجده في مجالس طرب و في أوقات متأخرة من الليل من خلال أبيات ترددها و ترَجّعها كثيرا لبابة منت احمدو ولد الميداح، 

منها:

قَالُوا أَيَطْرَبُ الٓــــــشَّيْخُ بَــعْدَ كَبْرَتِهِ=:=

وَ يًنثَنِي لِسَمَاعِ الْعُودِ فِي السَّحَرِ=:=

فَـــقُـــلْـــتُ  للِشَّيبِ إِذْ  هَبَّت عَوَاذِلُهُٰ=:=

نَعُـوذُ بِــــٓاللهِ مِـــنْ شَيْب عَلَى كَـــدَرِ=:=

 

و لأحد الفتيان في نفس السياق كاف في مقطوعة موسيقية (شور) لمحجوبة منت الميداح رحمها الله، يقول:

تُوبِي مِن ذَا الْــــفَنْ=:= 

عَـذَّبْـــــتِ الاَحْــــرَارْ=:=

هَـــــذِي النَّحْـيَ مِنْ=:=

مُـــوجِــبَـــاتْ الــنَّارْ=:=

....

 

و هنا لا بد أن نتوقف مع من قعَّدوا (وضعوا القواعد) لعلامات الــفُتُـــوَّة 

فهذا أحمدو ولد محمدن (بدن) ولد الشيخ محمدُّو ولد حبيب الرحمن التندغي يصف خصائص وحدود الفتوة عند مجتمعه بقوله:

حَدْ الْـــفُـــتُـــوَّ حَـــدْ اِعُـــــــودْ=:=

حَــاصِـــلْ رَاصُ وْ لَفْظُ مَكْرُودْ=:=

ؤُ لاَهِــي شَيْنَ فَــــلِّلي مَعْهُودْ=:=

لَــوْلاَدَ ادِمْ مُـــــــعَــــــامَـــلْـــتُ=:=

و ابْـنَــفْسُ وَاگَفْ دُونْ اجْدُودْ=:=

تَـــتْـــعَـــلَّـــقْ بِــيــهُمْ مَعْرِفْــتُ=:= 

وَ ادِيـــبْ ؤُ نَـــزِيهْ ؤُ مَــشْيُودْ=:=

بَـــسْـــمُ وَاحْـــلُ لَــ وَالَــــفْــــتُ=:=

يَعْرَفْ حُكْمُ و امْـنْ اَهْلْ الْجُودْ=:=

عَـــرَّابْ ؤُزَيْــــــنَ كِــــــتَــــبْـــتُ=:=

يَحْظَرْ لاَ لَــحْگْ ارْجَالْ اگْــعُودْ=:=

فِـــللِّـــي لاَهِــــي فِــيــهْ اِسَنْتُ=:=

       ------الگاف-----

ؤُلاَهُ فـــي الـــدَّنْيَا حَـــتَّ جَـادْ=:=

شَـــاطِـــنْـــتُ عَـــنْ هَــمْ آخِرْتُ=:=

ؤُلاَهْ امْـــضَـــيَّـــعْ دِنِـــيــتُ زَادْ=:=

حَــدْ الْـــفُـــتُـــوَّ ذَا نَــــــبْــــــتُ=:=

                   أحمدو ولد بدن

أحمدو ولد بدن يربط الــفُتُـــوَّة بميزات قيمية و حضارية و أخلاقية و معاملاتية مقبولة إن لم تكن جيدة كالصدق في القول و حسن المعاشرة و المعاملة و اكتساب أدب يغني محموده عن النسب اضافة للعلم و المعرفة و الجود مع عدم اشتراطه للتمكن من العلوم الشرعية فيكفي بالنسبة له إلمام الشخص بأحكامه الشرعية هذ فضلا عن خصال كاريزمية و قيم و فضيلة و مهارات كالخط اليدوي الجيد و القدرة على الحديث في أي ملإ قبل أن يصل إلى الاعراب الذي حدده بصيغة المبالغة فعَّال، ليختم بالزهد في الدنيا و الوسطية في التعامل معها و مع الدار الأخرى. 

و يشير محمد ابن ابْنُ ابن احميدَ الشقروي الحسني الى ضوابط الفتوة في عتاب لأحدهم حـيث يقول:

عِــيَّـــلْ فِـــتْـــيَـــان امْــعَــدْلينْ=:=

مُــلْــسْ احْـسُوسِـتْهُمْ كاملين=:=

و اغْــلاَظْ افْـــلَــخْــلاَگَات بَيْنْ=:=

حَـــسَّـــانْ ؤُ فِـــي الــطَّــــلاَبَ=:=

مَا فـيهُمْ جَـــاهِلْ فَـرْضْ عَـيْْن=:=

و أدِيـــــيـــــبــــينْ ؤُ كَـــتَّـــابَ=:=

ؤُ عَـــرَّاظَ للـــشّـــعْرْ ازْوَيْــــنْ=:=

وِ اگُــــــــولُـــــــوهْ ؤُ عَــــــرَّابَ=:=

 

امَّ لَــــــعَّــــــابَـــه مَــــاتْـــگِـــدْ=:=

تَبْدَعْ في الشُّـوْرْ الَى اشْــتَدْ=:=

في الـــتِّـــيـــدِنِيتْ ؤُ لاَ اتْـمِدْ=:=

بِــالْــمَــالْ أيْـــدِيـــهَـــا تَـــابَ=:=

مَـــايَـــعْـــرَفْ مِـــنْهَ حَرْفْ حَدْ=:=

ذِيــــكْ الاَّ بَــــــرْكِــــــةْ بَــــــابَ=:=

 

و في هذه المقطوعة يَصب الشاعر جام غضبه على من يعاتبه، و يعدد خصال الفتوة و مميزاتها في مجتمعه مضيفا الى الخصال التي تم سردها آنفا (الإلمام بالشرع و اللغة و الاعراب و اكتساب مهارات و فنيات كالخط الجيد اضافة إلى الكرم) تمتع الفتى بحنجرة جيدة و صوت عذب يتيح له ان توفرت ظروف معينة ان يترنم بصوت رخيم بأبيات شعرية مثلا أو ان يرَجِّعَ ترجيعا مقطوعة موسيقية فصيحة أو شعبية(نحيه أو شور)، و قد كان الفتيان اصحاب الأصوات الشجية يجالسون الفنانين و يرددون معهم بعض المقاطع الشعرية، و من أمثلتهم : محمد ولد عبدِ الله الغلاوي في الجهة الشرقية و باب ولد ابْنُ الالفغي في الجنوب و غيرهم، فترى الفتى في لحظة ما من النشوة الموسيقية يردد بصوت عذب يعجز الفنان نفسه أحيانا عن محاكاته، أبيات مديحية أو صوفية تدعوا إلى التامل و التفكر، و لا مانع من ترديد ابيات يمدح بها الشاعر حنجرة الفنان الذي يجالسه و يفضلها على جميع الحناجر. 

 

و هذا آخر يربطها أي الــفُتُـــوَّة بالعلم و خصوصا نادره و عويصه و الادب و اللغة و تحديدا فن العروض حيث يقول:

إِذَا الـْــمَــرْءُ ذَا أصْلِ أَصِيلٍ إِذَا انْتَسَبْ=:=

وَ لَمْ يَــــكُ ذَا عِــلْــمٍ وَ لَــمْ يَــــكُ ذَا أَدَبْ=:=

وَ لَمْ يـَـكُ أَهْـلاً لاِفْــتِــتَــاحِ عَــوِيــصَــةٍ=:=

وَ لاَ السِّيَرِ الْحُسْنَى وَ لاَ أَلْسُنِ الْعَرَبْ=:=

وَ لَمْ يَدْرِ مَا طَيُّ الْــعَــرُوضِ وَ خَــبْـنُهُ=:=

وَ لَمْ يَدْرِ مَا الْأَوْتَادُ و الْفَرْقُ وَ السَّبَبْ=:=

فَــــمَــــا هُــــوَ إِلاَّ كَـــسَٓــرَابٍ بِــــقِــيعَةٍ =:=

يـَـحْسـَـبـُـهُ الــظَّــمْآنُ مَــاءً وَ قَدٍ كذبْ=:=

 

 يحدد شاعرنا الفتوة باللغة و السير الحسنى و العلوم و الآداب و يعتبر ابجديات علم العروض و خصوصا الزحافات و العلل و ما يعتري صدر و عجز البيت و عروضه و ضربه من تغيير معيارًا و عنصرا أساسيا من عناصر الاختبار السريع للفتوة

 

و مع اتفاق شعراء الأدب الشعبي و الفصيح في معظم الخصائص و تركيز أحدهم على الإعراب و الاخر على الصياغة العروضية، إلا أن تعريف الفتى يظل اشكالا بارزا لا نكاد نصل فيه كما يقول علماء الـمنطق الى تعريف جامع مانع (جامع لكل التعريفات مانع لغيرها من الدخول فيها)، و عليه فالباب لا يزال مفتوحا لإضافة تعريفات جديدة.

فهذا فتىً ولد سيدامين حفيد علامة زمانه و فريد و وحيد عصره الشيخ محمد المامي الباركللي الحبللي يقول مخاطبا نفسه في مونولوج أدبي رائع:

 

مَا كُلُّ مَنْ يَا"فَتىً"يُدْعَى فَتىً بِفَتىً=:=

إِنَّ الْـــفُـــتُـــوَّةَ لَــيْـسَـتْ بِــالْأَكَاذِيبِ=:=

وَ لَا بِــتَـطْــيِــيــبِ نَــفْسٍ غَيْرِ طَيِّبَةٍٍ=:=

وَ لاَ بِـــتَـــهْــذِيـبِـهَا مِنْ غَيْرِ تَهْذِيبِ=:=

وَ لاَ بِــتَــطْــرِيـزِ أَثْـوَابٍ وَ جِــدَّتِـهَـا=:=

كَــلاَّ وَ لَيْسَ بِــأَكْلِ الــشَّاءِ كَـالذِّيبِ=:=

إِنَّ الْـــفُـــتُـــوَّةَ فِـي دُنْـٓيـٓاً وَ آخِـــرَةٍ=:=

سَـــلاَمَةُ الـْمَرْءِ مِنْ عَارٍ وَ تَـعْـــذِيبِ=:=

......

يشير صاحب المقطوعة فَتىً ابن سيدامين الى نقطة مهمة هي أن  السلوكيات المحددة للفتوة يجب ان تكون أصيلة و غير مصطنعة او متكلفة او دخيلة بل يجب أن تكون جزء مِن معدن الشخص و طينته و يخلص إلى إمكانية أن تكون الــفُتُـــوَّة في الدار الآخرة و يشترط لذلك كله سلامة فعل المرء الدنيوي و سلامة صاحبه من العذاب، كما أشار الى ما كان يعتقد انه جزء من ألفتوة و هو المظهر الخارجي و قدرة الشخص على التهام شاة باكملها كما تفعل الذئاب، مؤكدا ان هذا لا صلة له بالموضوع، فيما يختلف مع سابقيه في تركيزهم على العلم الشرعي و اللغة إعرابا و عروضا، يؤكد ابن سيدامين أن الــفُتُـــوَّة في الشمال هي سلامة الشرف و الكرامة من أن يلحقهما ما يمكن أن يدنسهما بكل ما يتطلبه الأمر مما لم يحدده أو يلمح إليه شاعرنا، لكنه مع ذلك يظل واضحا و هو مستوى جيد أو مقبول من مختلف العناصر المتحكمة في سلامة الكرامة في الدنيا و سلامة المرء من العذاب في الآخرة.

 

و مهما يكن من أمر، قبلنا تعريف هذا أو ذاك "للفتى أو الــفُتُـــوَّة" يظل القاسم المشترك بين كل التعريفات و الخصائص و المميزات هو ذلك الفكر الموسوعي أو بعبارة أخرى الموسوعية موازاة مع  منظومات سلوكية و نفسية أصيلة و غير مصطنعة أو دخيلة أو متكلفة، و فكر قيادي مستنير، 

و قد عرف أحدهم يوما الثقافة تعريفا رأيته مناسبا للكثير من حالات الــفُتُـــوَّة في مجتمعنا

يقول هذا التعريف: الثقافة هي معرفة كل شيء عن شيء:(مثلا: التضلع من العلوم الشرعية) و معرفة شيء عن كل شيء: (مثلا: اللغة و الإلمام بباقي الفنون و المهارات)

مع تحفظي على هذا التعريف الا انني وجدته الانسب بين كل التعريفات لمعالجة ظاهرة نكن لها الكثير من الاحترام و نحيط المنتمين اليها و المتحلين بها بهالة من القدسية و الاعتبار قل لهما النظير و حق لهم فالفتوة أمرها عظيم و لن تعالج هذه الخاطرة منها مقدار عشر العشر.

و هنا أطرح سؤالا أخيراً: لو سلمنا جدلا بصحة تعريف الثقافة المذكور أعلاه، فهل يقابل مفهوم "الفتى" عند مجتمع البيظان مفهوم "الـمثقف" عند مجتمع اليوم؟

أترك لكم الإجابة.

----

مع كامل التحية

الشيخ محمد المامي اسلام

[email protected] 

www.facebook.com/med.elmami

 

المصادر:

تفاسير: القرطبي، الجلالين، ابن كثير و أضواء البيان.

مصادر شفوية مختلفة؛

أحد, 19/02/2017 - 00:53