أواه اليدالي
يجمع خبراء الاقتصاد وعلماء السياسة والاجتماع أن البطالة هي أخطر الأمراض الاقتصادية والاجتماعية التي تهدد كيان الدول والمجتمعات وتضرب نسيجها في الصميم وتشكل بيئة ملائمة لانتشار أفكار الغلو والتطرف و الإرهاب والنزعات العرقية والسخط العام ، لذلك نجد أن الدول الرائدة والمتقدمة
تبذل جهودا مضنية للحيلولة دون تفشي البطالة و ( العطالة ) بين صفوف مواطنيها، وتضع باستمرار خططا اقتصادية طويلة الأمد لخلق فرص العمل ومراقبة انتشار البطالة وفق إحصائيات شفافة تسعى لمعالجة الخلل ومكمن الداء بعيدا عن سياسة "النعامة" التي تدس رأسها في الرمال عند مواجهة الأخطار والمشاكل!!!
وفي بلادنا موريتانيا تتراوح تقديرات البطالة بين10% حسب تقديرات الحكومة الحالية وهي نسبة غير منطقية بتاتا في موريتانيا حاليا لأن المؤشرات الإقتصادية لا تشي بذلك !!!!!!!!!! ففي أسبانيا تصل البطالة إلى 26% وفي فرنسا وهي واحدة من أقوى عشر اقتصاديات في العالم إلى 10% بينما تصرف الولايات المتحدة إلى 11% وفي ألمانيا 5%!!!
وكانت تقديرات شبه رسمية قد قدرت البطالة ب 32 % سنة 2007 وهي مرشحة للزيادة بسبب ازدياد اليد العاملة النشطة المقدرة حاليا (1600.000)أوقية وعجز الاقتصاد الوطني عن توفير (45.000) فرصة عمل يحتاجها سوق العمل كل عام لا توفر منها المسابقات والاكتتابات إلا النزر اليسير أو قطرة في بحر البطالة الخضم!!! وحاليا تقدر البطالة ب 33% حسب تقديرات المنظنة الدولية للشغل !!! ، و حوالي (50% ) حسب تقديرات منظمات غير حكومية ونقابات مهنية موريتانية، مع غياب أية معطيات دقيقة يمكن الركون إليها!!!!.
وقد ظهرت البطالة لأول مرة بصورة سافرة مع بداية عقد السبعينيات من القرن الماضي عندما ضرب الجفاف والقحط والتصحر غالبية أرجاء البلاد وما تلا ذلك من تدهور قطاع تربية المواشي وكذلك القطاع الزراعي اللذين كانا يوفران حوالي (75%) من فرص العمل للسكان، يضاف إلى ذلك انعدام أماكن جذب أو أقطاب للتنمية داخل البلاد، فكان أن نزحت عشرات الآلاف من الأسر إلى العاصمة نواكشوط أوأنواذيبو بحثا عن النزر اليسير من فرص العمل لتوفير الحد الأدنى من الدخل اليومي اللازم للبقاء على قيد الحياة!!!
غير أن عقدي الثمانينيات والتسعينيات شهدا تفاقما غير مسبوق لأزمة البطالة والعطالة متزامنا مع انتهاج الحكومة سياسات ليبرالية متوحشة تزيد من ثراء الأقلية وبؤس الأغلبية وانتشار البطالة والفساد والإفساد والقضاء على مفهوم الدولة وتدمير الطبقة الوسطى صمام الأمان لأي مجتمع كان!!! وبيع شركات القطاع العام المملوك للدولة بأثمان بخسة لقلة من المقربين طبقا لسياسة الخوصصة المفروضة من صندوق النقد الدولي ـ أو النكد الدولي ـ على الأصح التي ما ظهرت في سماء دولة إلا أصيبت بنقص من الأنفس والأموال والثمرات!!! وهي سياسة أدت إلى تخلي الدولة عن أهم وظائفها ألا وهي توفير الحد الأدنى من الخدمات الضرورية للمواطنين كالتعليم والصحة والسكن وفرص العمل والمياه والكهرباء والبني التحتية وهي السياسة التي جاءت طبقا لإملاءات صندوق النقد (النكد) الدولي وثبت فشلها في جميع بلدان العالم التاسع التي تتلمذت على الصندوق في وصفاته الجاهزة مثل: "مكافحة الفقر- زيادة تمدرس البنات - التقويم الهيكلي- الخوصصة – الحد من النفقات العمومية " فكان أن انحدرت تلك البلدان من سيء إلى أسوأ حتى كادت تصبح أو أصبحت بالفعل دولا فاشلة!!!!!!! وهو ما عبر عنه رئيس وزراء ماليزيا الأسبق الدكتور محاضر محمد إبان الأزمة الاقتصادية الآسيوية أواخر عقد التسعينيات بوصفه لخطط البنك الدولي وصندوق النقد أو"النكد" الدولي، بأنها لا تعدو كونها "تذكرة إلى الجحيم"!!!!
إن تفشي البطالة في موريتانيا اليوم يرجعه العديد من الخبراء إلى الأسباب التالية:
1- انقلاب الهرم السكاني: فحسب الإحصائيات فإن (70%) من سكان موريتانيا هم دون (25) من العمر مما جعل الطلب كبيرا جدا على الوظائف وفرص العمل النادرة بطبيعتها - بسبب سوء التخطيط الاقتصادي وانتشار الفساد والإفساد وانتشار الوساطة والمحسوبية وانهيار القطاع الريفي كالزراعة وتنمية المواشي- وارتفاع نسبة الإعالة في المجتمع بصورة كبيرة!!! فحاليا تقدر اليد العاملة النشطة أي المواطنين ما بين (20-60) سنة ب 1.600.000 من النشطاء!!!
2- تدهور القطاع الريفي: فانهيار الزراعة وتنمية المواشي التي كانت توفر حوالي (75%) من قرص العمل وعدم وجود فرص عمل في القرى و"آدوابه" المدن الداخلية يجعل المئات والآلاف من الشباب يفقدون موارد رزقهم وينضمون يوميا إلى جيوش العاطلين النازحة يوميا إلى شوارع نواكشوط أو انواذيبو وازويرات!!!
3- ضعف مساهمة قطاع الصيد: فمقارنة مع المغرب الذي يوفر فيه قطاع الصيد حوالي (600 ألف) فرصة عمل فإنه في موريتانيا التي تعد من أغنى بلدان العالم بالأسماك لا يوفر قطاع الصيد البحري إلا حوالي (10.000) فرصة عمل أغلبها فرص عمل مؤقتة وهو رقم زهيد جدا ولا يشغل إلا حوالي (0.6%) من الأيدي العاملة على اعتبار أنها مقدرة حاليا بـ (1.600.000) نسمة!!!!.
كما أنه حتى السفن الأوربية تشغل العمال الأجانب في مخالفة سافرة للاتفاقيات الموقعة مع الاتحاد الأوربي!!!!. ناهيك عن منافسة الآلاف من الصيادين السنغاليين للبحارة الموريتانيين!!!!
4- ضعف مساهمة الدولة: حسب الإحصاء الأخير فإن عمال وموظفي الدولة يقدرون بـ حوالي (36 ألف) عامل بينما تقدرهم بعض المصادر الأخرى شبه الرسمية بحوالي 40ألف عامل وموظف، وهي مقارنة مع تعداد الأيدي العاملة نجد أنها نسبة ضئيلة جدا فطبقا لهذه الأرقام فإن نسبة مساهمة الدولة في التشغيل لا تتجاوز (2.5%) من الأيدي العاملة في موريتانيا!!!.
5- ضغف مساهمة شركات القطاع العام في التشغيل: فشركات القطاع العام لا توفر فرص عمل تتماشى مع الحاجة الماسة للتشغيل وكذلك مع حجم أعمال هذه الشركات فمثلا لا يوفر العملاق الاقتصادي الوطني (اسنيم) الذي يأتي في المرتبة الثانية بعد الدولة من حيث التشغيل (الشركة الوطنية للصناعة والمناجم "اسنيم") لا تساهم مساهمة تتناسب مع حجمها الاقتصادي والمالي، فحسب بعض المصادر العليمة فإن دخل الشركة اليومي من تسويق الحديد يتجاوز 600 مليون أوقية يوميا!!! (600 عربة × 70 طن للعربة ×50 دولار في المتوسط للطن) لا تشغل إلا حوالي 6000 عاملا وموظفا نصفهم تقريبا من العمال المؤقتين "الجورنالية" وهي مقارنة مع حجم اليد العاملة لا تساوي إلا ما نسبته (0.3 %) من مجموع اليد العاملة وهي لعمر الله نسبة هزيلة من شركة عملاقة كانت الحكومات المتعاقبة تقول إنها يعيش منها "نصف سكان موريتانيا"!!!
6- انهيار التعليم ورداءة مخرجاته: لا شك أن انهيار التعليم من أسفله إلى أعلاه وتهميشه ومدرسيه من لدن الحكومات العسكرتارية المتعاقبة يجعل مستقبل الأجيال في خبر كان، ويزيد من تفاقم البطالة المتفاقمة أصلا، بل إن إهمال الحكومة للتعليم الثانوي الذي هو حجر الزاوية وواسطة عقد النظام التعليمي حيث شهادة الباكالوريا وشهادة الدروس الإعدادية وبوابة الجامعة والتعليم العالي قد زاد الطين بلة !!!.
كما أن سوء التخطيط بالنسبة للتعليم الجامعي (الحقيقة المرة إن موريتانيا لا تمتلك ولا حتى جامعة واحدة لأن معايير الأمم المتحدة تقدر أن أقل جامعة ينبغي أن تتكون من(15) كلية مكتملة الشعب والأقسام والبنية التحتية!!!! بينما ظل مشروع الجامعة اليتيم يتيه في الأرض منذ بداية الثمانينيات وإلى يوم الناس هذا مكونا من أربع كليات بعيدة الاكتمال ناقصة البنية والتقاليد الأكاديمية وتعاني من المشاكل والتخبط ما يفوق الحصر) ساهم ويساهم بدوره في تفشي البطالة في البلاد، فإنشاء كلية للقانون والاقتصاد – في نظر بعض الخبراء - مثلا بدلا من كليات الطب والصيدلة والبيطرة والمحاسبة والألسن واللغات وهندسة المعادن والسفن ومعاهد التكوين الفني والتقني كل ذلك أدى ويؤدي إلى تخريج الآلاف من الخريجين الذين لا يرحب بهم كثيرا سوق العمل!!!
كما أن ضعف إمكانيات التدريب الفني والمهني يحد من ولوج الأيدي العاملة الوطنية للعديد من الميادين كالبناء وميكانيكا السيارات والكهرباء والصيد البحري واللحام والسمكرة !!!!.
7- فوضى القطاع الخاص: يساهم القطاع الخاص مساهمة هامة جدا في التشغيل والحد من البطالة تقدرها المصادر النقابية أن حوالي (600.000) عامل تعمل في القطاع الخاص أي مانسبته (37.5%) من الأيدي العاملة، إلا أن الفوضى العارمة لهذا القطاع وعدم الالتزام بقانون الشغل كوجود اتفاقيات مكتوبة وعقود تشغيل واضحة ملزمة بين العمال وأرباب العمل وتحديد ساعات العمل يعرض العمال للطرد باستمرار ويجعل التشغيل مؤقتا مما يفاقم البطالة والعطالة الفادحة أصلا ناهيك عن تفضيل الأجانب أحيانا على العمالة الوطنية !!!!.
8- عدم وجود اتفاقيات تشغيل مع الدول الشقيقة والصديقة: فباستثناء دولتي الإمارات العربية وقطر لا ترتبط موريتانيا باتفاقيات تشغيل للعمالة الموريتانية مع الدول الشقيقة والصديقة، وكان من المؤمل والأجدى أن تبادر الحكومة إلى عقد اتفاقيات ثنائية مع دول الخليج العربي وجنوب المتوسط (أسبانيا مثلا) كما فعلت المغرب ومصر والسودان ولبنان وسوريا والأردن وحتى السنغال، لإتاحة فرص حقيقة للعمال الموريتانيين وضمان حقوقهم وأن يكون ذلك من صميم التعاون القائم بيننا وهذه الدول التي باستطاعتها دون شك أن تستوعب عشرات بل مئات الآلاف من مواطنينا وشبابنا العاطلين عن العمل !!!!.
9- وجود العمالة الأجنبية وانعدام قانون الأفضلية : توجد بالبلاد جالية أجنبية كبيرة تقدرها بعض المصادر بحوالي( مليون عامل) أجنبي من المهاجرين السريين والعلنيين جلهم من إفريقيا جنوب الصحراء يساهمون دون شك في مزاحمة العمالة الوطنية في كافة المهن والحرف وتفاقم البطالة والعطالة في غياب أي قانون يحمي أو يعطي الأفضلية للعمال الموريتانيين كما هو الحال في السعودية أو الجزائر مثلا!!!!! بل الأدهى من ذلك والأمر العمالة الصينية فقد أصبح العمال الصينيون منافسون أقوياء في مجال البناء وورشات إعداد اللبِن (دبوهات) !!!!!!!!! كما أن شركة المقاولات الصينية لا تكتتب العمال الموريتانيين مما يجعلها عبئا على الاقتصاد وقطاع التشغيل رغم فوزها بالكثير من الصفقات الممولة من المال العام والقروض الأجنبية التي تتحملها الدولة دون أي عائد يعود بالخير على العمال الموريتانيين وذلك أضعف الايمان!!!!
إن تفشي البطالة والعطالة في موريتانيا في هذه الأيام معضلة كبرى ونذير شؤم لا بد من معالجته بخطط مدروسة وليست من تلك الخطط الحمقاء السابقة أيام ولد الطايع مثلا عندما تم تشغيل بعض خريجي الجامعات كمراقبين ومسيرين لحنفيات "الحمر الأهلية" بعد أن نزعت من "العاطلين القدماء" الذين كانوا يشرفون عليها وغيرها من خطط الدمج التي ظلت سرابا بقيعة ، لم تزد البطالة إلا تفشيا والشباب إلا إحباطا وقيمة العلم والتعلم والدراسة والتمدرس إلا انتكاسا وارتكاسا!!
كما أن أداء وكالة تشغيل الشباب التي أطلق عليها بعض العاطلين "وكالة تدجين الشباب" كان ولا يزال دون المستوى المأمول في خلق فرص حقيقية للعاطلين والحد من البطالة المتفشية في البلاد !!!!.
إن البلاد تحتاج سنويا إلى (45.000) من فرص العمل ولابد أن تسعى الحكومة الحالية لخلق ءالاف فرص العمل سنويا في القطاعين العام والخاص، فلا يمكن لـ"براستامول" المسابقات الحكومية القليلة العدد والعدة أن تحد من هذه المعضلة نظرا لقلة الأعداد المكتتبة، وهي قطرة في بحر البطالة الخضم وبمثابة "صام سنة وافطر اعل أجرادة"!!
ليست البطالة السافرة هي الماثلة فقط في موريتانيا فالبطالة المقنعة حاضرة بقوة في المشهد الموريتاني اليوم فعمال وموظفو الدولة يعيشون بطالة مقنعة "لا كعبا بلغت ولا كلابا" ولولا سوق "النقطة الساخنة" لهجرت البقية الباقية منهم العمل إلى غير رجعة فلا هم حصلوا على رواتب تتماشى مع كلفة الحياة الصاعدة إلى عنان السماء وتكفي لإعالة أسرهم وأطفالهم " زغب الحوا صل لا ماء ولا شجر" ولم يعودوا عاطلين بالمعنى الحرفي للكلمة ،فالحكومة لا زالت مصرة على عدم زيادة رواتب الموظفين ومراجعة نظام الرواتب أسوة بدول الجوار جنوبا وشمالا بصورة عادلة وشفافة كما فعلت مع قطاعات ( القضاء وكتاب الضبط والشرطة )، فلا شك أن رواتب الأساتذة والأطباء والممرضين التي لا تعيل فردا وحيدا أحرى أسرة ولا تطعم أحرى أن تغني من جوع في حين أن رواتبهم المعقولة لضمان قوتهم اليومي حسب خبراء المحاسبة في دراسة متخصصة ينبغي أن لا تقل عن (262 ألف) شهريا بأسعار سنة 2006 حتى يعيشوا في حدود الكفاف فقط، إنه أصبح من اللازم على الحكومة الحالية زيادة الرواتب والأجور للعمال والموظفين وخلق فرص للعمل والحد من البطالة والعطالة حتى نمير أهلنا ونحفظ أخانا ونزداد كيل تنمية واستقرار !!...