التقيت يوم الثلاثاء الماضي برجل أعمال خليجي وصحفي سابق، من غير موعد. رحّب بي، كعادته كلما التقينا، وسألني عن أخبار موريتانيا وأوضاعها، فقلت إننا بخير والحمد لله.
لـٰكنه فاجأني بكلمة من اللّهجة الحسّانية لم يخطر على بالي أنه يعرفها أو يدرك معناها، وهي : "التبتابة"، قبل أن يزيد من دهشتي بقوله : "أنا كنت في موريتانيا منذ ثلاثة أشهر".. ثم تابع : "الأوضاع هناك سيئة، وأنتم لستم بخير كما تزعم، وقبل أن أقرّر مع نفسي كيف سيكون الرد الحاسم والمناسب على هذا الكلام، صفع معنوياتي مرة أخرى بقوله : "لا توجد عندكم بنية تحتية، وأكثر من ثلاثة أرباع الشعب يعيشون في ما يشبه القُبُور.. أنا زرت عدة مناطق من العاصمة، من بينها كرفُور.."..
أخرستني المفاجأة، ولم أدرِ ما أقول.. وماذا عساي أن أقول والرجل قادم من هناك، ورأى بعيْنه ما لا يمكن حجبه بغربال ولا تنفعُ "الدّبلوماسيّة" في تجميله.. إلاّ أنّني تماسكت وقلت : "لكن شعبنا قنوع، صبور، وكريم أيضا.. وستكون لاحظت ذلك بنفسك"..
ومع أن هذا الكلام ليس رداً مقنعاً على ما قال! إلاّ أنّني لم أجد غيره، ولقد أدركت لاحقاً أنه قد يكون ذماً بما يشبهُ المدح، وأي إساءة أكبر من أن تمدح شعباً بالخضوع والاستكانة؟
أشعل سيجارته ونفث دخانها بقوة، وبعد أن رأى تململي في الكرسي وانزعاجي من كلامه، قال: أنا لم أقصد بهذا الكلام إهانتكم، إنما أنا حزين لأوضاعكم المعيشية الصعبة، مع أنه كان من الممكن أن تكونوا من أكثر الدول العربية تطوراً ونمواً، فلديكم ثروات كثيرة وخيرات لا تحصى، لكن الفساد و"التبتيب" أوصلاكما لهذه الحال..
ثم أضاف : "أتعرف.. مشكلة رؤسائِكم أنهم مثل سلاطين المماليك!، الذين كان كل من يصل منهم إلى الكرسي يبدأ في نهب خيرات البلاد لأنه يعلم أن أيامه معدودة في الحكم، لذلك يحاول جمع أكبر قدر من المال قبل أن ينقلب عليه صاحبه، وهذا بالضبط ما يحدث عندكم"..
حاولت مقاطعته وتحويل دفة الكلام إلى موضوع آخر، لكنه أدرك ما أرمي إليه، ولم يأبه لمحاولاتي، وقال متنهدا، كمن أزاح عن كاهله عناء سنوات من الشقاء: "قابلت وزير العمل، وسألته عن فرص الاستثمار المتاحة والخطوات المطلوبة، فحدثني قليلا عن الأوضاع، ثم أعطاني بطاقة عليها رقم مكتبه الخاص، وقال لي اتصل على هذا الرقم، وستجد من يسهل لك الأمور!!.. أثار ذلك دهشتي.. وقلت في نفسي كيف يكون للوزير مكتب خاص غير تابع للدولة، وعندما سألت سفير بلادي هل أتصل على الرقم أم لا قال لي /خلّيه يوليّ/.. ولاحقاً قال لي صديق موريتاني إن هذا النوع يسمى بـ/التبتيب/".. ثم أضاف: "قلت لصديقي إنني أريد شراء قطعة أرضية في "أرض المطار القديم" لأقيم عليها مسجداً، فتقدم إلي قرابة عشرين شخصاً كلّهم يريد أن يتولى الأمر، ولمّا قلت لهم إنّني لن أعطي أحداً فلساً قبل أن يَتم شراء الأرض وبناء المسجد انفضّوا من حولي !!.." .
وجدت نفسي في وضع لا أحسد عليه، فمن جهة لا أنا قادر على الصبر عليه وهو يعبّر لي عن خيبة أمله الكبيرة ويصف البلاد بــ"جمـهوريّة الحـراميّة"، ومن جهة أخرى لا أجد "ترساً" ملائماً لصدّ هجماته، خصوصاً وأنا أعرف في قرارة نفسي أنه ما قال إلاّ صدقاً، بل رُبّما قصّر عن وصف الحقائق..
كل ما كان متاحاً لي من الخِيارات هو أن أحاول تغيير موضوع الحديث، لكن حتى هذه أيضاً لم أفلح فيها، فالرّجل كان مصمماً على إكمال حديثه، ولسوء حظي يبدو أنني كنت أوّل موريتاني يلقاه بعد عودته من بلادنا.. ومع ذلك فقد حاولت المقاومة دون يأس، فقلت إنّ كل الدول العربية تعاني من الفساد، وإِنه لا يجب التعميم مطلقاً، لكنه فاجأني مرة أخرى بقوله: أنا كنت أعمل في مؤسّسة خيريّة منذ الثّمانينات، وكان يأتي إلينا الموريتانيّون يطلبون مساعدات لبناء مساجد ومحاظر، وكنا نعطيهم ما يريدون.. أتدري ماذا كانوا يفعلون؟ قلت : لا. قال : كانوا يأتون لمسجد جاهز ويضعون عنده لافتة كُتب عليها : "هذا مسجد (...) بني على نفقة فلان... نفس المسجد كانت تأتينا صُوره في كل مرّة، والمُتغير الوحيد هو الاسم المكتوب على اللّافتة !"
تشعّب الحديث بعد ذلك، وقال أشياء عن علاقاتنا الاجتماعية وتقاليدنا، لكنّني برّرت له جزءاً منها، وغضضت الطرف عن الكثير.. ثمّ خرجت من عنده وأنا أفكّر في الوضع الذي وصلْنا إليه.. وضع معقّد للغاية، جزء منه يتعلق بالشّعب بلا شك، وجزء سببه الأنظمة المُتعاقبة.. الاعتراف بالداء هو أول الخُطوات لمعالجته ، ونحن يجب أن نعترف بأنّنا نعاني من خلل قِيمي وبنيوي علينا الاعتراف به أولاً ثمّ مواجهتُه بكلّ شجاعة، بعيداً عن العنتريات التي "ما قتلت ذبابا"..
انتهى..
أحمد فال ولد محمد آبه