لعل من ابرز مميزات النظام شبه الرئاسي في مهده الأول - فرنسا الجمهورية الخامسة - هو تلك التعديلات التي استطاع الرئيس الفرنسي ديجول مدعوما برمزيته التاريخية إدخالها
على دستور 1958 ، ليفرض بذلك اختياره رئيسا لفرنسا عبر الانتخاب المباشر من الشعب في العام 1962 بعد أن كان ينتخب من طرف البرلمان والمجالس المحلية .
وهكذا في ضوء تلك التعديلات أصبحت المادة السادسة من الدستور الفرنسي تنص على أنه " يُنتخب رئيس الجمهورية لمدة خمس سنوات بالاقتراع العام المباشر......." ( م/ 6 الفقرة الأولى ) . مما قوى بشكل كبير من مركز الرئيس في مواجهة البرلمان وجعله يتمتع بصلاحية استثنائية واسعة ليس أقلها حقه في الرجوع المباشر إلى الاستفتاء العام للفرنسيين وفي حل الجمعية العامة وفي الدعوة إلى إجراء الانتخابات المبكرة ، فضلا عن سلطات واسعة يستطيع ممارستها في حالات الظروف الاستثنائية ( م 16) .
إن هذا الاستهلال بمركز رئيس الجمهورية في الدستور الفرنسي لعام 1958 يأتي هنا من باب التأكيد على مركز نظيره في الدستور الموريتاني لعام 1991، الذي لا يخفى مدى تأثره بالدستور الفرنسي ، حتى وإن جاء القياس في جوانب عديدة منه من باب القياس مع الفارق، حيث يتأتى القول للكثيرين بان النظام السياسي الموريتاني هو نظام رئاسوي في مناحي عديدة منه أكثر منه نظاما شبه رئاسي ، كما يشيع تصنيفه بين الدستوريين الموريتانيين .
ومهما يكن فإن الهدف من الحديث عن نظام رئاسوي موريتاني مفترض هو من باب التكييف التقريبي لطبيعة العلاقة غير المتوازنة أحيانا بين السلطتين التنفيذية ممثلة أساسا في سلطات رئيس الجمهورية والسلطة التشريعية ، كما أنه يهدف كذلك إلى التأكيد على أن تلك العلاقة تعكس بوضوح العديد من مظاهر عدم التوازن لصالح مركز الرئيس في علاقته مع البرلمان مثل إمكانية حل البرلمان والدعوة إلى انتخابات مبكرة وعدم فرض مبدأ تسمية الوزير الأول من بين أعضاء الحزب الذي يحصل على أغلبية المقاعد البرلمانية. ناهيك عن أمور أخرى كثيرة ليس من اقلها وضوحا حق رئيس الجمهورية في عرض القضايا ذات الأهمية الخاصة على الشعب مباشرة عبر الاستفتاء كما يؤكده نص المادة 38 من الدستور بالقول " لرئيس الجمهورية أن يستشير الشعب عن طريق الاستفتاء في كل قضية ذات أهمية وطنية " . مما يطرح مبكرا مسألة البحث عن طبيعة تلك القضايا وعن مدى إمكانية وجود معيار لتحديد ماهيتها .
ماهية القضايا ذات الأهمية الوطنية :
من الواضح أن النص الدستوري السابق قد يثيرا إشكالا يتعلق بتحديد ماهية القضايا ذات الأهمية الوطنية ، فمفهوم هذه القضايا قد يلتبس لدى البعض، ولكنها في تقديرنا يجب أن تتحدد في سياق هذا الموضوع بنوعين من القضايا قضايا يمنع دستوريا عرضها للاستفتاء بغرض التعديل وهي التي حددتها الفقرة الأخيرة من المادة 99 بالقول " لا يجوز الشروع في أي إجراء يرمى إلى مراجعة الدستور، إذا كان يطعن في كيان الدولة أو ينال من حوزة أراضيها أو من الصبغة الجمهورية للمؤسسات أو من الطابع التعددي للديمقراطية الموريتانية أو من مبدأ التناوب الديمقراطي على السلطة والمبدأ الملازم له الذي يحدد مدة ولاية رئيس الجمهورية بخمس سنوات قابلة للتجديد مرة واحدة، وذلك طبقا لما تنص عليه المادتان 26 و28 المذكورتان سالفا ".
فمثل هذه القضايا هي من باب القضايا والمبادئ العامة التي تحكم المجتمع وتتعلق بكيان الدولة وبالتوازنات الكبرى لممارسة السلطة واستمرار المؤسسات لذلك ليس من قبيل الصدفة تحصينها دستوريا من أي جنوح للتعديل مهما كان مصدره .
أما النوع الثاني من هذه القضايا فهو ما يرى رئيس الجمهورية أهميته بوصفه المخول وحده دستوريا بذلك، وبالتالي تقدير ما إذا كان يتعين أو لا يتعبن عرضه مباشرة على الاستفتاء الشعبي. وحتى إن جاز القول بأن للرأي العام والقوى الحية في المجتمع دور كبير في تحديد ماهية تلك القضايا، إلا أن صاحب الحق في تحديدها أولا وأخيرا وبالتالي في عرضها للاستفتاء يبقى فقط من خوله الدستور ذلك
فما هي إذن مبررات القول بعدم جواز امتلاك الرئيس لحق المبادرة بعرض أي تعديل دستوري على الاستفتاء الشعبي مباشرة ودون الرجوع للبرلمان إذا كان يتعلق بقضايا يرى هو أنها ذات أهمية وطنية قصوى كالتي يجري الاعتداد لتعديله قريبا .
وإذا لم تكن قضايا مثل حل مجلس الشيوخ وإلغاء المجلس الإسلامي الأعلى ووسيط الجمهورية وتغيير شكل العلم الوطني وإنشاء مجالس جهوية ودسترة بعض المؤسسات مثل مجلس الفتوى والمظالم والسلطة العليا للصحافة والسمعيات البصرية ، تدخل - ومن الباب الواسع- في صلب القضايا ذات الأهمية الوطنية فما عساها تكون هذا القضايا ؟. إن الفهم السليم لهذا النص لا يمكن أن ينصرف بأي حال إلى أمكانية وضع قيود على حق الرئيس في المبادرة بمراجعة الدستور .
لا قيود دستوريا على حق الرئيس في المبادرة بمراجعة الدستور :
إذا استثنينا الحالات التي تضمنها نص الفقرة الأخيرة من المادة 99 من الدستور والتي تؤكد على عدم جواز جعل تلك الحالات موضوعا لأي تعديل دستوري، فإن الفقرة الأولى من هذه المادة أكدت على أنه " يمتلك كل من رئيس الجمهورية وأعضاء البرلمان مبادرة مراجعة الدستور" . ولئن كانت هذه الفقرة لا تحدد صيغة معينة لمبادرة الرئيس في مراجعة الدستور، فإنها قيدت حق أعضاء البرلمان في الفقرة الثانية من هذه المادة بالقول "لا يناقش أي مشروع مراجعة مقدم من طرف البرلمانيين إلا إذا وقعه على الأقل ثلث (3/1) أعضاء إحدى الغرفتين . لا يصادق على مشروع مراجعة إلا إذا صوت عليه ثلثا (3/2) أعضاء الجمعية الوطنية وثلثا (3/2) أعضاء مجلس الشيوخ ليتسنى تقديمه للاستفتاء " .
وهكذا يتضح أنه في الوقت الذي يتعين في المبادرة البرلمانية حصول مشروع التعديل على توقيع 1/3 من أعضاء إحدى الغرفتين، وتستوجب المصادقة على هذا المشروع حصوله على أغلبية ثلثي أعضاء الغرفتين، حتى يمكن عرضه بعد ذلك وجوبا على الاستفتاء، فإنه يلاحظ أنه فيما يخص مبادرة الرئيس لم يرد في الدستور ما يفيد تقييد هذه المبادرة بشروط أو قيود معينة .
ومن هنا يستعصى في نظرنا القول بما ذهب إليه البعض من ضرورة الربط بين مضمون أمتلاك حق الرئيس لمبادرة مراجعة الدستور وحق أعضاء البرلمان فيها، فالرئيس أولا واحد ولا يخضع لمنطق التبعيض وحقه في عرض مشروع التعديل على الشعب عن طريق الاستفتاء يساوي تماما حقه أيضا في اختيار صيغة التعديل عبر المؤتمر البرلماني، التي نصت عليها المادة 101 من الدستور، فكما لا يجوز القول بإلزامه بالدعوة إلى استفتاء شعبي بعد حصول مشروعه لتعديل الدستور على أغلبية 3/5 في المؤتمر البرلماني ، فكذلك لا معنى للقول بإلزامه بالمرور أولا على البرلماني إذا ما قرر عرض المشروع مباشرة على الشعب عن طريق الاستفتاء . إذ أنه يمتلك حق الاختيار بين إحدى الطريقتين ، فإن شاء عرض مباشرة مشروع التعديل على الشعب عن طريق الاستفتاء وإن شاء لجأ إلى الصيغة البرلمانية في التعديل على النحو الذي حدده نص المادة 101 من الدستور .
بل إن القول بإلزام الرئيس وجوبا بالمرور بالبرلمان إذا أراد تعديل الدستور سواء عن طريق الأسلوب العادي أي الحصول على مواقفة 2/3 أو طريق الأسلوب غير العادي أي عبر المؤتمر البرلماني بأغلبية 3/5 ، هو تقييد لحقه المطلق في مبادرة التعديل، وينافي أيضا حقه الدستوري الصريح في المادة 38 في استشارة الشعب عن طريق الاستفتاء حول بعض القضايا ذات الأهمية الوطنية ، كما ينافي حق الشعب في أن تعرض عليه وبشكل مباشر ودون المرور بالبرلمان بعض القضايا الهامة، مع أن هذا الأخير قد يوجد أحيانا وفي أوضاع معينة أبعد ما يكون عن تمثيل الشعب .
هذا فضلا عن أن طبيعة مضمون حق أعضاء البرلمان في مبادرة تعديل الدستور يبقى مجرد حق تجزيئي يختص كل نائب بجزء منه ولذلك يستحيل الحسم فيه دون تحقق نصاب معين ، على النحو الذي حددته الفقرة الأخيرة من المادة 99 . بخلاف حق الرئيس .
وحتى اترك المجال لبحث موسع حول الموضوع في قادم الأيام إن شاء الله أعتقد شخصيا أن الآثار القانونية للقول بالمرور وجوبا بالبرلمان قبل الاستفتاء إذا ما تكرس عمليا، فإنه ستكون له العديد من الانعكاسات السياسية المباشرة التي ليس أقلها إمكانية تعطيل التوصيات التي أصدرها المشاركون في الحوار الأخير، وخاصة منها ما يتعلق بقضايا مثل حل مجلس الشيوخ وتغيير شكل العلم الوطني ، ناهيك عن خلق توترات كبيرة في صفوف أغلبية النظام الحالي ، كما أنه أي هذا الواقع سيطرح وهذا هو الأهم إشكالا دستوريا جديدا بشأن طبيعة النظام السياسي في البلد ، هل لا يزال نظاما شبه رئاسي حتى لا أقول رئاسوي يتمتع فيه رئيس الجمهورية بسلطات واسعة في مواجهة السلطتين التشريعية والقضائية، أم انه أصبح نظاما من طبيعة برلمانية حيث يستطيع البرلمان الوقوف في وجه إرادة السلطة التنفيذية ممثلة في قمة هرمها رئيس الجمهورية .