و أخيرا، طمأن الرئيس محمد ولد عبد العزيز الرأي العام الوطني و الدولي بتصريحه لبعض وسائل الإعلام الغربية أنه لن يترشح لمأمورية ثالثة. إلا أنه من الصعب على الرئيس أن يترك السلطة ولو ترك الرئاسةَ.
فالرئيس تلاحقه اتهامات خطيرة حول تسييره لثروات البلد وعداوات كثيرة زرعها خلال حكمه في مجموعات واسعة و أفراد وازنة، و لن يقبل أن يتجرد هكذا من حصن السلطة الذي يحميه من المتابعة التي قد يخضع لها بسب تلك الاتهامات ومن الثأر الذي قد يواجهه من قبل تلك المجموعات و الأفراد.
فالسيد محمد ولد عبد العزيز باق في السلطة (أو هذا ما ينويه)، وهو ما يعني بقوله ان الباب أمام المعارضة، "أعداء الوطن"، مسدود.
فالحملة المتواصلة حول الإنجازات "العملاقة" التي حققها و الإشادات في كل مناسبة بالخصال الاستثنائية التي يتمتع بها لم تكن من أجل مأمورية ثالثة، التي يرفضها الغرب رفضا باتا، بل كانت حملة من أجل بقائه في السلطة.
و الإشارات و المؤشرات التي تدل على هذا التوجه تعددت في الفترة الأخيرة، فدعوات الوزراء، و وصية رئيس الحزب الحاكم الأخيرة بعدم التخلي عن الرئيس محمد ولد عزيز، و دعاء الرئيس في خطاب النعمه للتمسك بالحزب الحاكم، و أن "لا يتطاير كالريش" عند انتهاء مأموريته الأخيرة، كما حصل للأحزاب التي حكمت من قبله، و قد بدأ الحزب بالفعل اقتناء مقرات دائمة لهذا الغرض، كانت كلها خطوات تحضيرية للخطة التي تضمن لمحمد ولد عبد العزيز البقاء في السلطة و لكن من موقع جديد، يحترم الدستور الحالي و خاصة مواده المتعلقة بالمأموريات.
ونتذكر أن محمد ولد عبد العزيز قد صرح في إحدى خرجاته الإعلامية أنه لن يترك موريتانيا تنزلق عن السكة التي وضعها عليها، ناصبا نفسه راعيا و وصيا أبديا على البلد.
و يشكل إلغاء مجلس الشيوخ، الذي أعلن عنه في خطاب النعمه، مدخل خطة البقاء في السلطة حيث أن المسوغات الذي قدمها الرئيس لا يمكن أن تبرر إجراء بهذه الأهمية، يقتضي تعديل دستور و إجراء استفتاء مكلف ماليا (وسياسيا).
فبخصوص المبرر الأول، تسريع سير التشريع، إن المجلس لم يعرقل منذ نشأته أي تشريع كما أن آجال إيجاز القوانين لم تشهد تباطؤا غير معتاد في عهد الرئيس، و ليس لنا علم بمجموعة قوانين في التحضير لها من الأهمية و الاستعجال ما يبرر هذا الإجراء الذي قد تأخذ إجراءاته التنفيذية من الوقت ما لا يربح منه. و على كل، فإن مشكلة التشريع ليست في إجراءات الإصدار بل هي في تطبيق القوانين بعد صدورها و هذا لا يمكن عيبه على السلطة التشريعية.
أما مبرر العبء المالي للمجلس، فهناك هيآت أخرى ذات الزاد المحدود تكلف الميزانية مبالغ معتبرة كان من الأجدى حذفها قبل مجلس الشيوخ: مجلس الإفتاء، وسيط الجمهورية، المجلس الأعلى للشباب، المجلس الدستوري الذي من الممكن أن يحول إلى غرفة في المحكمة العليا كما هو معمول به في عدد من الدول، المفتشية العامة للدولة التي تزاحم محكمة الحسابات في صلاحياتها..، كما يمكن للحكومة أن تستغني عن عشرات المستشارين و المكلفين بمهام في الرئاسة و الوزارة الأولى و الوزارات الذين لا هم يُستشارون و لا هم يُكلفون بمهام. ضف إلى ذلك المشاريع العديدة التي خسرت و تخسر فيها الدولة أموال باهظة كقناة الري بمقاطعة كيرماسين و شركة النقل البري و مصنع الطائرات و المطار الجديد و شركة الطيران و اللائحة تطول. كما أن المجالس الجهوية التي ستحل محل المجلس المحلول ستكون لا محالة لها تكلفتها، مما يجعل مبرر تقليص التكاليف غير مقنع.
فيبقى المبرر المقنع، ألا و هو بقاء محمد ولد عبد العزيز في السلطة. فحل مجلس الشيوخ الذي كان رئيسه هو من ينوب عن الرئيس في حالة العجز يفرض تحديد من ينوب عنه في البنية الدستورية الجديدة. و فعلا يكون في بعض الدول رئيس الجمعية الوطنية هو الذي يتولى هذه الوظيفة، إلا أن ذالك لا يخدم خطة البقاء في السلطة لأنه يحتم على محمد ولد عبد العزيز الترشح للنيابة، ليكن رئيسا للجمعية و هذا طبعا مستبعد لأنه لا يليق برئيس سابق. فما يخدم الخطة أن يُستحدث منصب نائب للرئيس في التعديلات الدستورية التي يفرضها إلغاء مجلس الشيوخ لغرض الإنابة. و هنا تكون النافذة التي قد تمكن محمد ولد عبد العزيز من البقاء في السلطة. فإذا كان نائب الرئيس يعينه الرئيس المنتخب (و لا ينتخب معه لأن لا يعقل أن يترشح محمد ولد عبد العزيز لهذا المنصب و هو خارج للتو من الرئاسة)، يمكن للرئيس أن يدخل مع المترشح المقبل للرئاسة في صفقة تضمن لهذا الأخير النجاح، بدعم الأول ماليا و سياسيا (و عسكريا)، وله تجربة ناجحة في هذا المجال، مقابل التعيين في منصب نائب الرئيس فور تنصيبه، مع منحه أوسع الصلاحيات دائما في الصفقة،بما في ذلك القطاعات الأمنية.
طبعا يبقى هذا السيناريو نظريا، من ضمن سيناريوهات أخرى، و لكن له ما يدعمه كما تقدم. إلا أن الشيطان، كما هو معروف، يكمن في التفاصيل. فلا كان الرئيس يتوقع تمرد الشيوخ إثر قرار حل مجلسهم و لا هو كان يدرك صعوبة الحصول على ثلثي أصوات الشيوخ للموافقة على إجراء الاستفتاء (و يكفي أن يتغيب 5 إلى 6 من أصوات الشيوخ الموالين لإفشال الخطة).
إن السيناريو الأرجح هو أن الرئيس قد لا يمكن له البقاء حتى نهاية مأموريته الحالية، فالنظام يواجه أزمات متعددة و في تفاقم مضطرد. فمن الناحية السياسية، بدأت بوادر التمرد في الموالاة البرلمانية و بدأت أصوات وازنة تطرح تساؤلات محرجة حول الثراء الفاحش و الحديث لمقربين و أقرباء الرئيس و حصولهم على أراض شاسعة. و لزيادة الأوضاع تأزما، خلق النظام أزمة أخرى مع اتحادية أرباب العمل، الاتحادية الداعمة بطبيعتها للحكم.
أما الحوار "بمن حضر" الذي يراد منه تمرير التعديلات الدستورية المقترحة فما زال يراوح مكانه، متأخرا أكثر من عشرة أيام عن التاريخ الذي حدده و أكده الرئيس.
و قد بينت المعارضة في تظاهراتها الأخيرة (مهرجان التكتل و مسيرة المنتدى و مهرجان إيرا) التي شارك فيها عشرات الآلاف من المواطنين أن عدد الرافضين للأوضاع الاقتصادية و الاجتماعية الصعبة التي يعيشها البلد في تزايد متواصل و قد تصل إلى حجم قد يفاجأ النظام في التظاهرة المقبلة إذا وحدت الأطراف الثلاثة قدراتها.
و يتوقع أن تزداد هذه الأوضاع سوءً مع أزمة النظام الأخيرة مع مستثمرين خارجيين لهم وزنهم في الاقتصاد الوطني، كما قد تنفر المستثمرين الأجانب من البلد.
فيصعب على محمد ولد عبد العزيز و الحالة هذه أن يكمل مأموريته الحالية إلا إذا بادر بحل المشاكل و الأزمات التي يواجهها، بدلا بالسعي الدائم في زيادتها و تعقيدها.
محمد الأمين ولد ديداه