مساحة إعلانية

     

  

    

  

الفيس بوك

ولو شق بتمرة (5/2)

لقد أصبح الكثير من المسلمين يعتقد بأن العمل الخيري بصفة عامة، والإنفاق بصفة خاصة عبادة تخص الأغنياء دون الفقراء، ونظرا لذلك الاعتقاد الخاطئ فإنه قد يكون من المهم أن نتوقف في هذا الحلقة من هذه السلسلة الرمضانية مع لقطة سريعة من سيرة موسى عليه السلام ومع لقطة أخرى من سيرة الرسول عليه أفضل الصلاة والسلام، وذلك من قبل أن نقدم لقطات سريعة أخرى من حياة الصحابة تؤكد كلها بأن الإنفاق لا يخص أغنياء المسلمين دون فقرائهم.

 

اللقطة الأولى: تتعلق بلحظة قدوم موسى عليه السلام إلى مدين وهو خائف يترقب، ففي تلك اللقطة كانت جموع من الناس قد اجتمعت عند بئر مدين، وكان موسى عليه السلام لحظة قدومه إلى مدين يعاني من الخوف والغربة ومن جوع شديد (لم يذق طعاما سبعة أيام، وقد لصق بطنه بظهره ) تفسير القرطبي. لا شك أن هموم موسى عليه السلام في ذلك اليوم كانت أشد وأقسى من هموم غيره، إلا أنه ورغم ذلك فقد أخذ يبحث عن المهمومين والمستضعفين لكي يعينهم، وكأنه بذلك قد أراد أن يعقد صفقة مع رب العالمين، وهي صفقة لا يمكن لها أن تكون بأي حال من الأحوال صفقة خاسرة، لا في الدنيا، ولا في الآخرة. فماذا لو عقد كل مسلم فقير صفقة مشابهة، وترك ـ مثلما فعل موسى عليه السلام ـ همومه الخاصة لرب العالمين، وانشغل قليلا بهموم غيره من المستضعفين، حتى وإن كانت تلك الهموم أقل إلحاحا من همومه الشخصية؟ قال الله تعالى في سورة القصص ((وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ (23) فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (24). صدق الله العظيم.

 

 

اللقطة الثانية : بعد نزول الوحي على الرسول صلى الله عليه وسلم، وبعد دخوله على خديجة رضي الله عنها وفؤاده يرجف، وبعد أن قال لها (لقد خشيت على نفسي) أخذت خديجة رضي الله عنها تثبته وتقول : (كلا والله لا يخزيك الله أبدا، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق).
إن ما قالته خديجة رضي الله عنها، يؤكد أن النبي صلي الله عليه وسلم ومن قبل نزول الوحي، كان مشغولا ـ رغم الفقر ـ بالعمل الخيري و بمد يد العون للمحتاجين.

 

 

ولم يقتصر الإنفاق في أوقات الشدة والفقر على الأنبياء فقط، فالصحابة رضوان الله عنهم قدموا هم أيضا دروسا رائعة في الإنفاق، فهذا أحد فقراء الصحابة يبادر بالتصدق قبل أغنياء الصحابة، وهذا آخر يستدعي الضيوف إلى بيته رغم أنه لم يكن يملك من الطعام إلا ما يسد به رمق أبنائه، وهذه زينب بنت جحش رضي الله عنها، تعمل بيديها الشريفتين لكي تَكْسِبَ مالا تتصدق به على الفقراء .
لم يكن غريبا أن يُنافس فقراء الصحابة أغنياء الصحابة في الإنفاق، لأنهم كانوا يعلمون أن أعظم الصدقات أجرا، هي تلك التي يتصدق بها المتصدق وهو يخشى الفقر.فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال:( جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله أي الصدقة أعظم أجرا قال أن تصدق وأنت صحيح شحيح تخشى الفقر وتأمل الغنى ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت لفلان كذا ولفلان كذا وقد كان لفلان) متفق عليه.
ولأن البعض قد يقول بأن تلك القصص الرائعة، في مجال الإنفاق التي قدمها الصحابة رضوان الله عليهم، لم يعد بالإمكان تقديمها في عصرنا الحاضر، لهؤلاء أقدم قصة هذا الفقير المنفق.
ذكر "أورخان محمد علي" في كتابه "روائع من التاريخ العثماني" قصة أغرب اسم جامع في العالم، وهو جامع صغير في منطقة "فاتح" في اسطنبول اسمه باللغة التركية : "صانكي يدم" أي: "كأنني أكلت" أو "افترض أنني أكلت". ووراء هذا الاسم الغريب، قصة غريبة طريفة، وفيها عبرة كبيرة. يقول "أورخان" : كان يعيش في منطقة "فاتح" شخص ورع، اسمه "خير الدين كججي أفندي" ، وكان صاحبنا هذا عندما يمشي في السوق ، وتتوق نفسه لشراء فاكهة، أو لحم، أو حلوى، يقول في نفسه : "صانكي يدم"، أي "كأنني أكلت"، ثم يضع ثمن تلك الفاكهة أو اللحم أو الحلوى في صندوق له، ومضت الأشهر والسنوات، وهو يكف نفسه عن كل لذائذ الأكل، ويكتفي بما يسد رمقه فقط، وكانت النقود تزداد في صندوقه شيئا فشيئا، حتى استطاع بهذا المبلغ الموفر القيام ببناء مسجد صغير في محلته. ولما كان أهل المحلة يعرفون قصة هذا الشخص الورع الفقير، وكيف استطاع أن يبني هذا المسجد، أطلقوا على الجامع اسم : جامع "صانكي يدم"، أي "كأنني أكلت"، أو "أفترض أني أكلت"، وهذا الجامع لا يزال موجودا حتى الآن.

 

 

ختاما

 

 

بما أننا قد دخلنا في العشر الأواخر، وفيها تتحرى ليلة القدر، فإن كل الطاعات تكون أعظم أجرا، وبما في ذلك الصدقة، فمن تصدق بمائة أوقية في واحدة من هذه الليالي العشر، وصادفت صدقته ليلة القدر، فكأنما تصدق في كل ليلة بمائة أوقية، ولفترة من الزمن تزيد على ثلاث وثمانين سنة، أي كأنه تصدق بما يقترب من ثلاثة ملايين أوقية، والله يضاعف لمن يشاء.
تقبل الله صيامنا وصيامكم..

 

 

محمد الأمين ولد الفاضل

سبت, 25/06/2016 - 07:10