قال الله تعالى : { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ ۚ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا (58) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ ۖ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۚ ذَٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا }
القرآن كتاب حافل بالهدى ساطع نوره بينٌ هداهُ لا وصف له إلا ما وصفه به منزله جل في علاه
{ .. هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ }
إنه هدى للناس إن هم أرادوا وقبلوا، للحكام و المحكومين و العلماء و المتعلمين و الموسرين و المعدمين وهو هدى بَيّـِـنٌ لا تعقيد فيه و لا غموض، و فرقان كاشف لا لبس مع و لا ضلال .
مثلت هاتان الآيتان الكريمتان ميزان قسط في العلاقة بين الحكام والمحكومين تبين الواجبات و الحقوق بدون محابات و لا حيْف و قد ذكرهما الله بعد عرض موجز لحال أهل الكتاب و تعطيلهم لأحكام الله وتحريفهم لكتبه فاشتروا بذلك الضلالة وضلوا السبيل وهم حريصون على لحاق أمة الاسلام بهم في سلوكم المنحرف، { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ وَيُرِيدُونَ أَن تَضِلُّوا السَّبِيلَ }
إن العلاقة في الاسلام بين الحاكم ومحكومه علاقة عقد و ميثاق تستوجب الوفاء و الالتزام و حسن الرعاية و العناية دون استعلاء من حاكم و لا تمرد من محكوم،
و النظرة الصائبة إلى الحاكم في الاسلام أنه أجير الامة و راع لمصالحها وهو بذلك أثقلها حملا في الدنيا و أعظمها حسابا في الآخرة وبذلك تحبه الأمة وتتولاه و عليه تعينه و تطيعه
فهو راع يوليه صاحب الحق على القيام بأموره بمحض إرادته و اختياره، لا سبيل إلى قهره و إجباره
و ينظر في الاسلام إلى المحكوم باعتباره سندا و عونا على الحق و ظهيرا و نصيرا لأداء الأمانة و إقامة حكم العدل، و قد أوصى الله الجميع في هذه الآيات و بين حقوقه و واجباته فعلى على الحكام و المحكومين أن يطيعوا أوامر الله ويحفظوا وصاياه و يتعظوا بمواعظه { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ }
و الامانات لفظ مستغرق للشأن العام كله فمن الامانة كما بين النبي صلى الله عليه وسلم " أن يوسد الأمر إلى أهله "
فيجب على الحكام تولية أهل القوة و الامانة و الحفظ و العلم في كل مجال و من الامانة مشورة الناس في أمرهم وقد قال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم " وشاورهم في الأمر " و كل سيرته صلى الله عليه وسلم امتثال لذلك وقد قال أبو هريرة رضي الله عنه " ما رأيت أحدا أكثر استشارة لاصحابه من محمد صلى الله عليه وسلم لأصحابه "
و من الأمانة إيصال الحقوق المادية و المعنوية لذويها دون بخس أو تطفيف و لا منَّةٍ و لا ذلة، دون أن يحابي مواليا أو يجافي معارضا أو يجاري هوى
و الأمانة في مجملها رعاية المصلحة و القيام بها على أكمل وجه
" وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ "
الحكم بالعدل داخل في أداء الأمانة لكن العطف هنا للإبراز و الاهتمام و إظهار العناية و الرعاية و الحاكم في الامة حارس لهذه القيمة و قَيِّمٌ عليها.
و العدل اسم من اسماء الله تعالى و أولى العدل العدل في تطبيق العدل و أن يظل ميزان القسط منتصبا في الحكم لا يتأرجح مع القرب أو البعد أو الحب أو البغض
و المقام يقتضي استجلاب التطبيق من الاسوة الحسنة محمد صلى الله عليه وسلم :
نماذج من العدل النبوي
العدل في تطبيق الاحكام و القوانين و من أمثلة ذلك
• قصة المخزومية التي سرقت فأرادت قريش أن تحافظ على شرفها أو سمعتها و أرادت أن تثني النبي صلى الله عليه وسلم عن قطع يدها و استشفعت بالحِّب رضوان الله عليه و على أبيه و له و لأبيه منزلة محمودة و شفاعة معهودة عند النبي صلى الله عليه وسلم رشحته قريش بها ( وهل يجترئ عليه إلا أسامة ) لكن النبي صلى الله عليه وسلم استنكر شفاعته قائلا " يا أسامة أتشفع في حد من حدود الله و الله لو سرقت فاطمة بنت محمد لقطعت يدها "
• ولما كان النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع يقرر معالم الاسلام و يهدم مظالم الجاهلية كان التطبيق يبدأ بالأهل الكرام عليهم رضوان فيهدر مال العباس و دم بن عبد مناف فقال: ( وكل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع ودماء الجاهلية موضوعة وأول دم أضعه دم ابن ربيعة بن الحارث وربا الجاهلية موضوع وأول ربا أضعه ربا العباس بن عبد المطلب فإنه موضوع كله ) رواه مسلم من حديث جابر في صفة حجة الوداع
• و يخلد القرآن في هذه السورة و في هذا الجزء قصة الانتصاف من الانصار الموالين و المؤوين لرسول الله صلى الله عليه وسلم و الذين وصفهم بأنهم ( شعار و الناس دثار )
و الانتصار لليهود الكائدين الماكرين
سرق أنصاري بالمدينة و أصبح الناس يتحدثون بسرقته فأخذ الدقيق المسروق و رماه ببيت يهودي و أًصبح أثر الدقيق باديا دالا على سرقة اليهودي فجاء الانصار يريدون من رسول الله صلى الله عليه وسلم تبرئة ابنهم و تجريم اليهودي و مال النبي صلى الله عليه وسلم في بداية الامر إلى قولهم للقرائن الدالة عليه ، لكن نزل القرآن يعصم النبي صلى الله عليه وسلم من تبرئة السارق و رمي البريئ و قرر في ذلك من أخلاق الاسلام و كمال الدين ما لا سبيل للبشر إليه بدون الوحي المنزل فخاطب النبي صلى الله عليه وسلم: { إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ ۚ وَلَا تَكُن لِّلْخَائِنِينَ خَصِيمًا }
و وصف السارق فقال : { يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَىٰ مِنَ الْقَوْلِ ۚ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا }
و خاطب الانصار حين دافعوا عن ابنهم بالباطل فقال : {هَا أَنتُمْ هَٰؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَن يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَم مَّن يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا }
و بين طريقة النجاة من الخطأ و تدارك الاثم و سبيل الخلاص فقال: { وَمَن يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَّحِيمًا }
فلا نجاة إلا بالتوبة و الرجوع و أما رمي البريء فهو استمرار في الخطأ و إصرار على الذنب { وَمَن يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا }
ثم امتن على رسوله و حبيبه و مصطفاه و مجتباه صلى الله عليه وسلم فقال : {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ أَن يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ ۖ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَيْءٍ ۚ وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُ ۚ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا}
و في هذا الجزء من هذه السورة نقرأ قول الله تعالى { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوْ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا }..
و هذا في العدل مع النفس و القريب
و في السورة الموالية نقرأ قوله تعالى: { هَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا ۚ اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ ۖ } و هذا في العدل مع البعيد
موعظة الله للحكام
"إن الله نعما يعظكم به "
و في ذلك تذكير بقول الله تعالى : { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ }
و ما أجدر موعظة الله بالتذكير فنعمت الموعظة و العجب من نفر من الوعاظ يبالغون في وعظ الامة و تخويفها من الفتنة و لا يعظون الحكام بموعظة الله و لا يذكرونه بحكم الحكيم و رقابة الرقيب جل جلاله
ثم هدد الله الحكام باطلاعه و رقابته إذا هم خانوا الامانة و حكموا بالظلم " إن الله كان سميعا بصير "
واجب المحكومين
بعد هذا الخطاب و البيان لواجبات الحكام خاطب الله المحكومين فقال : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُواالرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ }
فيجب على الأمة أن تطيع الامام العدل فتعين الأمين على أداء الامانة و العدل على إقامة العدل فيصلح بذلك حالها و يستقر أمرها
وهنا جاءت طاعة الامام تبعا لطاعة الله و رسوله فتبين أن طاعته طاعة منفذ للأمر لا منشئ له فإذا خالف المنفذ ( الحاكم ) طاعة الآمر ( الله و رسوله ) كان أمره يستحق المخالفة جزاء وفاقا لخروجه عن دائرة اختصاصه
و كان الصحابة يفقهون ذلك جيدا و يبينون أن طاعة الحكام حق لهم يستحقونه بأداء واجبهم في أداء الأمانة وحكم العدل و قد قال ابن جرير الطبري حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس قال، حدثنا إسماعيل، عن مصعب بن سعد قال، قال علي رضي الله عنه كلماتٍ أصاب فيهن: " حقٌّ على الإمام أن يحكم بما أنـزل الله، وأن يؤدِّيَ الأمانة، وإذا فعل ذلك، فحقّ على الناس أن يسمعوا، وأن يُطيعوا، وأن يجيبوا إذا دُعوا ".
فليست الطاعة في فقه علي رضي الله عنه تبعية ينتزعها مُتَغلِب ٌ من مُـتَغَلبٍ عليه وهو برر قتاله لمعاوية رضي الله عنه ( بأنهم قوم يريدون أن يسنوا بالمسلمين سنة الأكاسرة )
و إنما هي عون على طاعة الله و رسوله و مشاركة إيجابية في أداء الأمانة و إقامة العدل يراعى فيها مصالح الامة و إقامة دينها لا حظ فيها لهوى الحاكم و نزعاته فاستحقت بذلك أن يضحي المحكوم في سبيلها فيطيع في العسر و اليسر و المنشط و المكره ( و أثرة عليه أحيانا )
و الواقع أنها ليست بتضحية و إنما هي إيثار لمصلحته الكبرى التي هو فيها جزء من الأمة على مصلحته الصغرى التي هو فيها فرد عن الأمة فليفهم ذلك من ظنها هدرا لمصلحة الافراد مقابل مصلحة الحكام فليس الحاكم في رعاية مصالحه الخاصة إلا فردا من أفراد الامة
الفصل بين الحكام و المحكومين
من شأن كل متعاقدين الخصام و النزاع في إثبات أصل الحق و في التمكن منه وهنا بَينَ الله تعالى للحكام و المحكومين إذا اختلفوا أن يرجعوا إلى الله أي إلى كتابه و الرسول أي إلى سنته القولية و سيرته في ممارسة الحكم و تطبيق الكتاب فقال جل و علا { فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا }
أي عاقبة في الدنيا بتحقيق المقاصد و درء المفاسد و حسن المآب ، وذكرهم أن الاستنكاف عن هذا العود المحمود شأن اليهود و المنافقين { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَن يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا }
و أقسم بانتفاء الايمان حين لا يقع الاستسلام الكامل لذلك التحكيم فقال { فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا }
و عند الحاجة إلى فهم الكتاب و السنة يعاد إلى العلماء المتقين العاملين بالشرع المبتغين مرضاة المُشَرّعِ جل جلاله { الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ ۗ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ حَسِيبًا }
ممن لا يراعون أجر السلاطين و لا ذكر الجماهير { وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ } { كَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ}
نسأل الله بأسمائه الحسنى و صفاته العلا أن يصلح شأن المسلمين أجمعين و أن يهديهم حكاما و محكومين