محمدُّ سالم ابن جدُّ
جرى ذلك قبل عقود حين بدأت نعومة الخريف تطوي خشونة الصيف، وتذكرته الليلة أثناء التراويح فجأة وأنا ألج سورة النحل قادما من سورة الحجر فهممت بدس يمناي في كمي وكادت تسكرني الذكرى النورانية الوردية، ودارت بي الأرض حين قارنت الماضي بالحاضر فتراقصت علامات التعجب أمامي وكدت أقطع التلاوة بالتسبيح!
وضعت لوحي ضحوة بين الألواح في البرميل الحديدي جنب خيمة "مرابطي" وقد أكملت آخر ثمن من القرآن العظيم؛ إنها نقطة النهاية لجهد بدأته أمي في صدر عامي الخامس ودام فترة حتى أكمله ذلك الشيخ (رحمهما الله).
عدت إلى أهلي كما أعود إليهم سائر الأيام، فالتربية تقضي بعدم إظهار السرور – ولا الحزن- حتى بما يستحق ذلك! وحين علمت عمتي – حفظها الله- عجنت كمية منتخبة من مسحوق الحناء وأمهلتني حتى تغديت ثم خضبت يمناي بها (كما كان يفعل بأمثالي وقتها) إلى مناط الساعة دون تقتير، ولم تكل الأمر إلى غير نفسها.
نمت ساعة أو ساعتين ثم أيقظتني حرقة في يدي المخضوبة فنهضت مصرا على إزالة الحناء غير مصغ إلى استمهال عمتي، وحين أزيلت كانت يدي متغضنة ضاربة إلى الصفرة.. منظر غريب لم أرها به وإحساس لم أجده من قبل! بعد قليل حانت صلاة العصر، ومن المصلى انطلقت خلف "مرابطي" أسرد عليه "سوراتي" كما جرت عادتي في الأصائل. جولة لمت شتات المواشي المتبددة بين الأجارع والروابي تتبعا لبقل قصير تعامله معاملة القارئ لما يصعب عليه تبينه!
بعد الاطمئنان على جمع المواشي وتوجيهها بلطف نحو "الخيام" جلسنا على كثيب تجنبا لاستعجال الرواح وتهييجا للأوابي بالعواشي. حينها انتبهت إلى أن صفرة الحناء الباهتة في يدي تحولت إلى سواد فاحم! خجلت من هذا "التشبه" فدسست يدي في الرمل كي لا يراها الشيخ الفاضل الذي تضافرت عدة عوامل يكفي كل منها لاحترامه وتوقيره.
واصلت إخفاء يدي بأساليب مختلفة حتى حلول الظلام بينما كان الشيخ يرمقني بنظرات غريبة لم أشْكُكْ أن باعثها الاستغراب وتقبيح لما فعلته بي عمتي. وبعد زمان بدأت أفهم أن الأمر عادي، وأن الشيخ - رحمه الله- ربما كان يريد التأكد أني صنعت ما ينبغي أن أصنعه، خشية أن يحملني "الترقي" على ترك ما درج عليه "الحفاظ" منذ القِدم، حتى أصبح الوصف بحناء اليد مرادفا للوصف بحفظ كتاب الله جل شأنه!
مر على هذا الحدث زمان سمح لمواليد تلك الأيام أن يصبحوا آباء، ولمراهقيه – أمثالي- أن يصبحوا أجدادا فوق الخمسين، منهم ذو شيبة في الإسلام، ومنهم ذو صلعة فيه، ومنهم من قاومت بصيلات شعره الأيام فاستبقت الشعر وسواده، ويقال إن للوراثة دورا في هذا.. والله أعلم.
يا عيشنا الماضي خذ من عمرنا ** عاما وزد زمن الصبا أياما.