كان سكان ما يعرف الآن بموريتانيا يعملون على إثبات الرؤى دون تنسيق، تبعا لما يبلغه العلم في حيز كل مدينة أو حي بدوي؛ فحياة الأغلبية قائمة على الحل والترحال، وهو ما يجعل التنسيق في مر ظرفي كالهلال أمرا صعبا.
وجاء الاستقلال، وكان من مظاهر سيادة الدولة أن يتوحد جميع المواطنين في أداء شعائرهم الدينية؛
وهو ما بدا سهلا نظرا لوجود إذاعة يغطي بثها التراب الوطني ويتجاوزه، ومن ذلك الوقت إلى الآن صار إبلاغ الشعب بالهلال يتم مباشرة وفي آن واحد. ولأول مرة – فيما أظن- توحد جميع الموريتانيين في أداء الصوم والحج بإشراف رسمي على نحو منظم.
وطبيعي أن يعترض الجديد بعض العراقيل؛ فقد قامت طائفة من علماء البلاد معظمهم الآن في البرزخ بمعارضة الكائن الجديد (المذياع) إلا أن جل أحكامهم على الموضوع كان في غاية السلبية والسطحية؛ حيث تم التركيز على الوسيلة ذاتها دون التقصي فيما وراءها.
لكن قلة مستنيرة تفهم الجديد وتستوعبه كانت موجودة أيضا، وكان أبرزها الإمام بداه ابن البوصيري (رحمه الله) وقد عُهِد إلى الأخير بشأن الأهلة على مدى 20 سنة تقريبا من تاريخ البلاد.
9
ظل الإمام بداه حَكَمًا مقبولا من طرف أغلبية الموريتانيين (مع المكاتبات والمشاعرات التي أذكتها الوسائل الجديدة بينه وبين بعض العلماء من جهة، وبين هذا البعض نفسه من جهة أخرى) إلى صيف عام 1977 حين ظهرت بوادر تدعو إلى إعادة النظر في الموقف والوسائل:
أُعْلِن بدءُ رمضان فصام الجميع، وبعد تسعة وعشرين يوما أُعْلِن انتهاؤه فأفطر الأكثر، وعند الغروب كانت المفاجأة المذهلة! السماء صحو إلى درجة نادرة على أغلب مناطق البلاد، ولم يظهر هلال ولا شبهه فيما يفترض أن تكون ليلته الثانية.
عاد الجميع فصاموا يومين آخرين قبل أن يُرى هلال شوال! وهو ما أثار حرجا بالغا للسلطات والشخصيات الدينية القريبة منها، وهيج فورة جديدة من المكاتبات بين بداه وبين مخالفيه في الرأي والموقف، وخصصت الإذاعة جيزا من إرسالها لأحاديث قدمها بداه نفسه في هذا الموضوع، كما تناوله في خطب الجمعة، ولكن الخرق اتسع على الراقع حين تكرر الحال في العامين التاليين (1978، 1979) فاعتزل بداه شأن الأهلة نهائيا.
10
كان الحكم العسكري طري العود بعدُ، وفي أمس الحاجة إلى مصداقية على كل الأصعدة، وجاء انسحاب الإمام بمثابة امتحان عسير في مادة لم تخطر للحكام على بال، والرجل صعب المراس لا يعدل عن قراراته بسهولة؛ فكانوا إما أن يجدوا من يتمتع بمصداقية الإمام المنسحب أو يتركوا الناس وشأنهم في فوضى {كل يعمل على شاكلته}.
ولتَعَذُّر المطلب الأول وسلبيات الثاني شكلت لجنة ضمت أبرز الوجوه من مسؤولين وقضاة وأئمة وموظفين وأعيان.. وسميت "لجنة مراقبة الأهلة" وأجريت عليها عدة تعديلات شكلية منذ إنشائها سنة 1980 إلا أن الجانب الدعائي ظل مسيطرا على عملها دون الاعتبارات الموضوعية، إلى حد يجوز معه اعتبارها أسوأ قرار يتخذه عسكر موريتانيا في المجال الديني؛ إذ يبدو لمن راقب عمل اللجنة أنها تسعى إلى إلباس الهلال دراعة، كما لو أنه يوجد هلال موريتاني الجنسية وآخر أجنبي! وقد انسحب بعض أعضائها في بعض الفترات لأسباب غير مصرح بها وتردد أن السبب الامتعاض من سوء أداء اللجنة، التي يجدر بها الانتباه إلى أن الفرص والوسائل الحديثة تخدم أصحاب المقاصد الطيبة والخبيثة سواء بسواء.
11
- وسعيا إلى "إكمال" عملها استحدثت اللجنة "قضاة" هم الإداريون الذين تلقوا تكوينهم في غير العلوم الشرعية، مع أن في كل مقاطعة قاضيا شرعيا واحدا على الأقل؛ فجعلت على من يدعي رؤية الهلال رفع دعواه إلى الحكام ورؤساء المراكز الإدارية (بلاغات اللجنة) وهؤلاء قوم يتعاملون عادة مع شهود الهلال كما يتعاملون مع شهود الحالة المدنية! وهنا إحدى الثغرات.
- لم يُطلب – أبدا- من القضاة العمل مساء الترقب لاستجواب المترائين والبت في صدق دعاويهم؛ بل إن رؤساء محاكم المقاطعات يحتلون درجة عادية في تشكلات اللجان الجهوية لمراقبة الأهلة، بحيث يتم إشعار أحدهم عادة قبل رفع الأمر إلى اللجنة المركزية، وقد يشعر عبر المذياع كسائر الناس. وهنا ثغرة أخرى.
- لم تكلف اللجنة نفسها بالتحقيق المباشر مع المترائين؛ بل كل ما تفعله هو إعطاء رقم هاتف وزارة الداخلية (بلاغات اللجنة أيضا) أما الزيارة فإن اللجنة لا تريدها. وهنا ثغرة أخرى.
- لم تنزل اللجنة إلى الناس فتكون بحيث يمكن لقاؤها؛ بل إنها تعمد إلى عقد اجتماعاتها في وزارة الداخلية، وهي مكان عصي على الزيارات لما تحاط به من حراسة خشنة تجعل المرور البريء أمامها – أثناء ساعات العمل- أمرا متعذرا في بعض الأحيان، فكيف بالزيارة أثناء الليل! وهنا ثغرة أخرى.
- باستثناء مرات قليلة جدا فلم تجتمع اللجنة (1980 – 1994) إلا وأعلنت تلقي ما يفيد رؤية الهلال وأثبتتها أيضا (ولو بعد حين) بحيث صار اجتماع اللجنة = رؤية الهلال لدى عامة الناس. وهنا ثغرة أخرى.
- تسمح اللجنة لشوال وما بعده بالتمام في كل عام للتخلص من فائض الليالي ولا تسمح لما بعد جمادى الآخرة بذلك؛ وهو أمر لافت للنظر، إضافة إلى كونه خرقا لقاعدة "لا يتوالى أكثر من خمسة كاملة أو ثلاثة ناقصة" وهي معتبرة شرعيا وفلكيا.
- كثيرا ما حكمت اللجنة على الموريتانيين بالإفطار والعالم الإسلامي ما زال على صومه، ونحن في نهايته، وتلك – لعمري- مفارقة يصعب تسويغها.
12
وحتى لا أتهم بالتحامل والنقد جزافا أضرب أربعة أمثلة فقط:
أ. في عام 1982 كان سادة (منهم من ما زال حيا) على الضفة اليسرى لنهر السنغال حين غربت شمس آخر يوم من شعبان، وهناك شاهدوا هلال رمضان بوضوح، وشاهده معهم أغلب السكان. بعد ساعتين عبر خمسة منهم إلى الضفة اليمنى ففوجئوا بأن أهلها لم يروا الهلال. بحثوا عن حاكم القوارب ليبلغوه شهادتهم كما طلبت اللجنة، وبعد الياس منه اتصلوا بالوالي أو مساعده، وفي حيثيات الحديث ذكروا مكان رؤيتهم الهلال فاعتذر بأنه لا يحق له التعامل مع ما جرى خارج التراب الوطني؛ راجيا أن يحاولوا رؤيته "هنا" ولم يقنعوه بأن الأمر ليس مخالفة ولا يخضع للحدود السياسية؛ والهلال قد غرب منذ وقت.
رئي الهلال في مناطق موريتانية أخرى واعتمدته اللجنة، لكن والي الترارزه (أو مساعده) وقتها رفض رفع رؤية جرت خارج مجال القانون الموريتاني!!
ب. في يونيو سنة 1985 ادعى ثلاثة عشر شخصا - منهم رجلان- بوادي الناقة رؤية هلال شوال 1405هـ، وكان القاضي أحمدُّ بن حبيب – رحمه الله- بين المصلين في جامع القرية فرفعوا الأمر إليه، وبعد استجوابهم بالطريقة الفنية المتبعة لدى القضاة لم يتفق الحد الأدنى للمستفيضة على أمارة محددة للهلال الذي يدعون رؤيته، وليس فيهم عدل، فرفض القاضي رؤيتهم كما هو ضروري.
ساروا إلى حاكم المقاطعة الذي عدهم بإصبعه كما تعد الماشية "إحدى عشرة امرأة ورجلان"وغدا أعلنت اللجنة المركزية لمراقبة الأهلة ثبوت هلال شوال لديها "بناء على رؤية ثلاثة عشر شخصا من بينهم عدلان (؟!) بوادي الناقة" فأفطر الموريتانيون وسكان وادي الناقة أنفسهم غير مفطرين!
ج. شباب مناهضون لما يصفونه بالميتافيزيقيا دأب بعضهم على رفع رؤية وهمية للهلال إلى اللجنة المركزية كلما كانت في حال اجتماع على مدى عدة سنوات (من بعض مدن الداخل) ليظهروا "هشاشة" الأسس التي قام عليها التدين حسب تعبيرهم. وأستغفر الله العظيم.
د. أعلن ثبوت هلال رمضان 1414 (1994م) اعتمادا على رؤية عدلين (لعلهما بكيهيدي) وبعد أسبوع رجع أحدهما عن شهادته، وكان منتظرا من اللجنة أيضا أن ترجع عن قرارها، لكنها استمرت متمسكة به، وأعلنت نهاية رمضان بعد تسعة وعشرين يوما من رؤية عدلين رجع أحدهما عن شهادته!
13
بدائل
أ. يجب نزع خمار السياسة عن شعائر الإسلام، والتنسيق بين العالم الإسلامي (أو منطقة غرب إفريقيا والمغرب العربي على الأقل) وإذا كان جديرا بذلك أن يكيف على نحوٍ ما فليكن من باب التعاون الدولي أو الإقليمي. ولست أدري لم تعطل الحكومات المتعاقبة عندنا "عموم الرؤية" ما دام القانون الموريتاني يحيل إلى مذهب مالك في مثل هذه الحال، والأخير نص عليه صراحة. ولا أدري – كذلك- كيف يكون ساكن القوارب ملزما برؤية ساكن باسكنُ (مثلا) ولا يكون ملزما برؤية ساكن الضفة الأخرى من النهر ذاته، لا لشيء سوى كونه مسلما يحمل جنسية أخرى!
إن ترك الحبل على الغارب قد يجر إلى ما لا تحمد عقباه؛ فكيف يكون موقف الحكومة لو صام سكان الجنوب وأفطروا مع السنغال أو مالي، وسكان الشرق مع مالي، وسكان الشمال مع الجزائر والمغرب؟ خصوصا ونحن في عهد التعددية وحرية الرأي، فكيف تمنعهم من أمر هي سنته لهم على نحو آخر.
ب. إذا كان الحديث الشريف «إنا أمة أمية..» صريحا في تعليل رفض الفلك بالأمية والتخلف فتنبغي مراعاة مفهوم العلة بعد ما أصبح دوران القمر وما تعلق به أمرا معروفا لأناس كثير، وليكن ذلك – مراعاة لأصل الدين- من باب الاستئناس فقط؛ فيطلب من الناس البحث عن الهلال حين يقرر العلم خروجه من هالة الشمس، وإلا فكيف يصدق عاقل وصول الهلال إلى شاطئ الأطلسي قبل البحر الأحمر؟!
ج. يجب إخضاع موضوع الأهلة للمحاكم الشرعية مائة بالمائة، ولا يكفي أن يكون رئيس اللجنة قاضيا أو بعض الأعضاء كذلك، إذا لم تعتمد على قضاة وتعمل بالمنهج القضائي المعروف. فإذا كانت نتائج الانتخابات تخضع للقضاء فأركان الإسلام أولى، وإذا كنا لا نقنع بالإداريين قضاةً ولا نرضى بقضائهم في نزاعاتنا الصغيرة فكيف نرضى بقضائهم في شعائر الإسلام؟ وإذا كان العدل – في نظرهم- هو الراشد المصحوب ببطاقة هويته فيجب أن لا نعجب من التناقضات التي ظلت – وستظل- تترى..
وباختصار فمن غير الصواب تناول الشهود والشهادات من طرف غير القضاة؛ وإلا فمَنْ غيرُهم؟!
د. يجب على أي هيئة يسند إليها أمر الأهلة أن تُغَلِّب العامل البشري على شبكة الاتصال الإداري (RAC) فتكون حيث يمكن لقاؤها وإلا فلن يتغير شيء يذكر.
هـ. إذا لم يتغير شيء فإن الموريتاني بين خيارين:
1. أن يعتبر دار الإسلام أرضا واحدة (وهي كذلك) فيعمل بما صح بأي ناحية منها دون اعتبار لمكانه الخاص.
2. أن يضع الصوم على منوال الصلاة؛ فكل منهما عبادة فردية في بعض جوانبها، يخاطب العبد فيها بحسب يقينه. صحيح أن الشرع لا يرضى الفوضى، لكن الشرع أيضا يعتبر من الوسائل ما يرفع الشك لا ما يخلقه ويفاقمه.
تبقى مسألة تجدر الإشارة إليها:
من المستبعد أن يكون الهلال موجودا، في السماء، في الليل، وهو جسم منير، إلا ورآه أغلب الناس، مهما كانت الأمور.
والله أعلم.
* (أنجزتُ هذه المادة سنة 1994 ونشر بعضها في جريدة "القلم" مستهل سنة 1995 ثم نشرتها جريدة "أقلام حرة" كاملة في عددها التاسع بتاريخ 20 /8/ 2000 ومع اقتراب رمضان ارتأيت إعادة نشرها، نظرا لبقاء جانب مهم مما أثير فيها، مع تقدير ما طرأ من تحسن.