مساحة إعلانية

     

  

    

  

الفيس بوك

المحققون الذين يمكنهم مراقبتك عبر الفضاء

يستعمل المحققون المعاصرون تقنيات حديثة تساعدهم في كشف غموض القضايا التي يسعون لحلها. الصحفي بول ماركس يلتقي بمسؤولين في شركة للتحقيقات تسخّر أداة جديدة في عملها، وهي الأقمار الصناعية.

هناك جمهور لكاتب قصص الجرائم رايموند تشاندلر وتعليقاته الساخرة، ولا شك أنهم سيفرحون لوجود وكالة تحقيق خاصة، في الواقع وليس في الخيال، يديرها رجلان باسم رايموند، وتستخدم الأقمار الصناعية في المراقبة.

لكن راي هاريس وراي بيردي لا ينويان تتبع الرجال الذين يخونون زوجاتهم في فنادق رخيصة وسيئة السمعة، مثلما يفعل فيليب مارلو، بطل روايات تشاندلر. في الواقع، يعمل هذان المحققان "راي" كعيون مراقبة من السماء، وذلك من خلال إدارة أول وكالة للتحري في العالم تعمل من الفضاء الخارجي.

يهدف هذان المحققان لاستعمال الصور الفوتوغرافية الملتقطة عبر الأقمار الصناعية في الدعاوى المقامة في المحاكم، ومنها ما يتعلق بنزاعات تخوم الملكيات العقارية، أو تحديد حقوق الممرات والطرق بين العقارات، أو كشف أماكن المركبات المسروقة، أو المواقع غير المشروعة لمكبّات النفايات، أو التثبت من أضرار بيئية خطرة أصابت مستنقعات حيوية وغابات قديمة.

يعمل بيردي كمحامٍ في قضايا الفضاء، أما هاريس فهو عالم بالجغرافيا تخصص في صور الجغرافيا المكانية وقواعد البيانات. وقد أسس الاثنان وكالتهما الفضائية للتحري، لتوفير "الأدلة الهوائية والفضائية"، في أكتوبر/تشرين الأول عام 2014. وتخرج الاثنان من كلية لندن الجامعية، لكن بيردي يعمل الآن في جامعة أوكسفورد.

إن إلمامهما بصور الأقمار الصناعية، وكيفية تطبيق القانون عليها، يمنحهما أفضلية، كما يمكن لهذه التقنية أن تفيد للغاية. يقول بيردي: "بإمكانك في يومنا هذا، مع الوضوح العالي للصور الذي يصل إلى درجة قرب تبلغ 30 سنتيمتراً، أن ترى من الفضاء صندوق بريد، أو غطاء قبو للصرف الصحي."

وأثار ظهور المحققين على ساحة التحري والتحقيقات تخيلات عامة الناس. وفي الوقت الذي توقع فيه الثنائي بعض الاهتمام وقت الإعلان عن مشروعهما، انتابتهما الدهشة من ردود الفعل، حيث تناقلت وسائل الإعلام نيتهما تقديم شيء مستجد.

يقول بيردي: "كانت ردود الفعل غير متوقعة بالمرّة. توالت المكالمات الهاتفية الواحدة تلو الأخرى لقرابة شهرين. اتصلت بنا كل الصحف البريطانية تقريباً، إضافة إلى المجلات وشركات الإنتاج التلفزيونية التي أرادت إنتاج برامج وثائقية تسجيلية. لا زلنا نتلقى مكالمات هاتفية من شركات التلفزة."

رغم ذلك، فهِم العديدون المسألة بشكل مغلوط. وبفضل برامج تلفزيونية درامية مثل "هوملاند آند سبووكس"، اعتقد كثيرون أن أحداث كوكبنا تُسجّل على فيلم فيديو باستمرار من الفضاء – وبتفاصيل دقيقة. وتضمنت النشاطات الأولى للمحققين شرح القدرات الحقيقية للشركة لزبائنها وما يمكن أن تقوم به أنظمة التصوير الفضائية المعاصرة.

على سبيل المثال، كان شخص ما يلاحق امرأة فطلبت من الوكالة محاولة التعرف على المشتبه به من الفضاء – ومع الأسف لم يكن ذلك ممكناً. وأرادت عميلة أخرى أن تعرف من دقّ مساميراً في إطارات سيارتها.

وأراد زبائن آخرون التعرف على مركبات استعملت في حوادث سطو أو سرقة مقتنيات أحد البنوك – بما في ذلك توقع رؤية لوحات أرقام السيارات من الفضاء.
Image copyright Getty Images

يقول بيردي: "افترض الكثيرون أن هناك تسجيلات فيديو على الأقمار الصناعية، وليس فقط صوراً ملتقطة. لا ألوم هؤلاء الناس. إنه أمر مثير حقاً والتقنيات تتطور بسرعة. ولكن ليس بالسرعة التي يتخيلها البعض."
السفر بالصور عبر الزمن

رغم أن تسجيلات الفيديو للأقمار الصناعية موجودة فعلا، لكنها ليست بدرجة وضوح الصور الملتقطة عن طريق أفضل الكاميرات التي تدور في مدار حول الأرض– أضف إلى ذلك أنه لا يمكنها توفير تغطية كاملة.

فعلى سبيل المثال، تبني شركة "تيرّا بيلّا" المملوكة لغوغل، وكانت تدعى سابقاً "سكاي بوكس إميجينغ"، أسطولاً من أجهزة التصوير التي تعرف باسم "كيوبساتس"، والتي تدور حول الأرض في مدار منخفض، وبإمكانها تزويدنا بمقاطع فيديو مدتها 90 ثانية لمكان معين من الكرة الأرضية.

ويريد القائمون على الشركة في نهاية الأمر أن يكرروا ذلك على بقعة محددة من الأرض عدة مرات خلال اليوم الواحد، حتى يقترب عدد أجهزة "كيوبساتس" في الأسطول من العدد المطلوب، وهو 24 قمراً صناعياً. لكن ذلك قد لا يكون بالضرورة في الوقت المحدد الذي يريده شخص ما بالضبط.

وتضمنت أول دعوى مدفوعة الأجر لأحد المحققين في وكالة التحقيقات تلك طلبا من أحد سكان كاليفورنيا يقول إن جاره يدعي أن إحدى خدمات رسم الخرائط على الإنترنت توضح حقه في المرور عبر حديقة منزله، بل وأراد ذلك الجار أيضا أن يُوثّق ذلك بشكل رسمي، فلجأ صاحب المنزل إلى الشركة لإثبات عكس ذلك.

"بالعودة إلى الصور الأصلية الملتقطة من الفضاء عبر فترة من الزمن، استطعنا تحديد عدم وجود أي مسلك أو ممر عبر عقار ذلك الرجل"، حسبما يقول بيردي.

كان ذلك السفر البصري عبر الزمن ممكناً لأن الصور الملتقطة من الفضاء وُضعت في أرشيف لشركات الأقمار الصناعية منذ سبعينيات القرن الماضي. في البداية كانت بدرجة وضوح متدنية ولكنها تحسنت تدريجياً حتى توفرت لدينا صور في عام 1999 بدرجة قرب تبلغ أقل من متر واحد، فيما عدا ما يتعلق بالمواقع العسكرية. أما الآن، فالصور أكثر دقة وتصل إلى درجة قرب تبلغ 50 و 30 سنتيمتراً.

الصور الملتقطة عبر أزمان مختلفة هي حاسمة في مثل هذه الحالات، وخبرة بيردي باعتباره محامياً في الأمور المتعلقة بالفضاء، ومعرفته بالصور التي يمكن اعتبارها أدلة مقبولة، هي مفتاح النجاح بالنسبة له.

يقول بيردي: "يتوجب علينا أن نبين للمحكمة استنادها على ما هو مقدم كدليل". ويتضمن ذلك البرهنة على أن الصور حُفظت بشكل صحيح ولم تُغيّر أو تحوّر بأي شكل من الأشكال.

يمكن للصور الملتقطة من الفضاء أن تكون جزءاً من شبكة معقدة من الأدلة والبراهين. إن نزاعات حدود العقارات مسألة شائعة، وتساعد الصور في أغلب الأحيان في تحديد صاحب الحق. لكن الوكالة لا تستطيع تقديم المساعدة على الدوام: فالسُحب والظلال والأحراش وأغصان النباتات المتسلقة قد تقع بين الكاميرا والهدف المطلوب في بعض الصور التاريخية المصيرية، مثل وجود سياج في موقع ما قبل عقد من الزمن.

وفي إحدى الدعاوى، طُلب من المحققين النظر في تجريف أرض ما بشكل غير شرعي من إحدى البحيرات المحمية ضمن القانون الأوروبي باعتبارها من الأراضي الرطبة. وتمكّنا من العثور على صور تبين عدد وحجم عمليات التجريف، وقدّما أدلة على كمية الرمل الذي جرى تجريفه وخزنه بالقرب من البحيرة – وحتى كيفية تغير الكميات بشكل مؤثر عبر السنين.
Image copyright Getty Images

كما يستخدم المحققان في عملهما في هذه الوكالة أقماراً صناعية مزودة بأجهزة الرادار. وبما أن هذه الأجهزة تكشف إشارات الرادار الدقيقة المنعكسة عن سطح ما، بدلاً من التقاط أشعة الشمس المنعكسة عنها، يمكن استخدامها في مهمات مختلفة تماماً، مثل الأماكن التي نُقلت إليها أشياء ثقيلة مسروقة.

يقول بيردي: "ولكنها رائعة أيضاً لتبلغنا سريعاً عما إذا جرى توسيع منزل أو بناء ما. ويُسجل الشكل المختلف فوراً على شاشة جهاز الرادار."

كما تساعد الأقمار الصناعية المخصصة لنظام التموضع العالمي في التحري أيضاً – بفضل خدمات التتبع التي تستعمل نظام تحديد هوية السفن. وطُلب من الوكالة إذا كان بمقدورها، من خلال صور الفضاء، تحديد السفينة التي ارتطمت بأحد توربينات الرياح المولدة للكهرباء والمثبتة قرب أحد السواحل.

ومع أن من المستحيل تقريباً رؤية لحظة الارتطام، يقول بيردي إن عملية ملاحقة مسالك السفن يمكنها أن تحدد أي منها كان في تلك المنطقة في ذلك الوقت. عند ذاك، وعلى سبيل المثال، يمكن لعيّنات طلاء جسم السفينة –المأخوذ من موقع الحادث- أن يكون من الأدلة الجنائية المساعدة في تحديد هوية السفينة المرتطمة بالتوربين.
تحديد مواقع مكبات النفايات

ويتكشف لنا أحد الروافد الرئيسية الأخرى لعمل رجال مباحث الفضاء: وهو معرفة مرتكبي الجرائم البيئية. في إحدى القضايا بجمهورية أيرلندا، على سبيل المثال، أثار قطع أشجار غابة قديمة بعض التساؤلات – فهل قُطعت الأشجار قبل زمن طويل لا يطال العقاب بموجبه أحد، أم أنه وقع مؤخراً؟

الصور الملتقطة من الفضاء في أوقات زمنية مختلفة مكّنت الوكالة من تحديد ما إذا كانت الأشجار قد اختفت خلال فترة بضعة أسابيع من عام 2014، وذلك على نحو دقيق.

لقد أصبحت مكبّات النفايات المحظورة مشكلة متفاقمة، ويتوقع من الصور الملتقطة من الفضاء أن تصبح مورداً رئيسياً لأدلة المستقبل في إدانة المذنبين. أحد الأمثلة الحديثة على ذلك هو مكبّ غير مشروع للنفايات في شمال أيرلندا ألقي فيه ما يقرب من 1.5 مليون طن من النفايات، كان معظمه من نفايات مواد البناء.

ويعلق بيردي قائلاً: "من المحتمل أن يكلف ذلك مئات ملايين الجنيهات الاسترلينية في شكل ضرائب على مكبات النفايات، إضافة إلى رسوم تنظيفها".

لذا، وبدعم من البوليس الدولي (الانتربول) والبوليس الأوربي (يوروبول)، فإن وكالة "الأدلة الهوائية والفضائية" تسعى للحصول على تمويل أبحاث لتطوير وسائل استخدام الصور الملتقطة من الفضاء لتحديد المواقع غير المشروعة لمكبات النفايات حال البدء في إنشائها. ويضيف بيردي: "نريد أن نرصدهم متلبسين بالجريمة."

مشروع آخر يسعى المحققان للحصول على تمويل له، وهو تحديد أماكن التربة المرفوعة أو أعمال الحفر، وذلك من خلال التصوير الفضائي، والذي بإمكانه أن يساعد قوات الشرطة في تحديد وإيجاد بقايا بشرية مدفونة.

المعضلة الكبرى هي في استخراج بيانات بوضوح عالٍ بما يكفي ليستفيد منها المحققون. ومن الواضح أن الاحتمالات المتعلقة بمثل هذا النوع من التحريات ستتضاعف كثيراً، إذ تتحسن درجة وضوح ودقة الصور الملتقطة عبر الأقمار الصناعية ونقترب من الوصول إلى خيارات التصوير بالفيديو.
Image copyright Getty Images

وفي الوقت الذي يزداد فيه إطلاق الأقمار الصناعية المخصصة للتصوير، وخاصة من قبل دول ناشئة في مجال الفضاء مثل الصين والهند، سيصبح التحري عن الجرائم من الفضاء أسهل بكثير من السابق.

ويعود ذلك إلى وجود مجاميع تصوير قليلة التكاليف من أجهزة "كيوبساتس" من شركة مثل "تيرا بيلّا" و "بلانيت لابس"، والتي ستعمل جنباً إلى جنب مع شركات التصوير العريقة مثل "ديجيتال غلوب" و "سبوت ساتيلايت إيماجيري" العائدة لشركة "إيرباص".

على سبيل المثال، تعدنا شركة "بلانيت لابس" بأنها ستكون قادرة على تزويدنا بصور يصل وضوحها إلى 50 تريليون بِكسِل لكامل الكرة الأرضية، كل يوم، عندما يصل عدد أجهزة "كيوبسات" الدائرة في مدار أرضي إلى 100 جهاز.

لكن الزيادة في عدد الأقمار الصناعية المخصصة للتصوير والتي تدور حول الأرض يمكنها أن تؤدي إلى "آثار قوية" على الحياة الخاصة في المستقبل، حسب قول ريتشارد تينان، التقني لدى مجموعة الضغط اللندنية "بريفيسي إنترناشينال".

يقول تينان: "بإمكان الأقمار الصناعية تركيز قدراتها لتتخطى الحدود المرسومة وتكشف نمط الحياة الخاص بمجاميع من الناس، أو استعمالها لتتبع وملاحقة أشخاص معينين" – مشيراً إلى أن هذا القطاع التجاري بحاجة إلى تنظيم وضوابط دقيقة.

ليس تينان الوحيد في رأيه ذاك. "مع ازدياد درجة وضوح الصور الملتقطة عبر الأقمار الصناعية إلى حد 30 سنتيمتر، فإنها تقرب من عالم المراقبة والتصوير لأغراض عسكرية،" حسب قول جوان ويلر، المحامية بشؤون الفضاء والتي تمثل بريطانيا لدى "مكتب الأمم المتحدة لشؤون الفضاء الخارجي"، والمقيمة في لندن.

وتضيف ويلر: "وبالتالي فإننا نسمع أصواتاً أكثر تعبر عن قلقها فيما يتعلق بحقوق الإنسان وخصوصية البيانات وحمايتها عند التقاط هذه الصور".

وترى ويلر أنه لا تزال هناك حاجة إلى تعريف النقطة التي تنتهك فيها صورة ملتقطة عبر الأقمار الصناعية قانون حماية البيانات الشخصية.

وقد انتهجت "المفوضية الأوربية" سياسات لحماية البيانات عن طريق مراقبة الأرض من الفضاء – من بينها أنه على أية صورة ملتقطة تبين ما هو أقل من مسافة 2.5 متر أن تُفحص بدقة قبل نشرها.

أما في الوقت الحاضر، كما تقول ويلر، فقد رُفض مشروع المفوضية الأوربية باعتباره عائقاً أمام الشركات العاملة في هذا القطاع التجاري، فهو "يحد من المنافسة".

لذا، وكما كتب المؤلف رايموند تشاندلر في روايته "ذا بيغ سليب" أنك إذا ما عشت في "منطقة رائعة تستمتع فيها بعاداتك السيئة" فعليك الحذر، فأنت لا تعرف مطلقا ما الذي يدور في الفضاء، أو مدى قوة الكاميرات هناك.

جمعة, 22/04/2016 - 12:20