إنه من الصعب جدا أن نقدم قراءة ذات قيمة لهذه التعديلات والترقيعات التي تشهدها الحكومة من حين لآخر، وذلك لسبب بسيط جدا وهو أن هذه التعديلات والترقيعات لا تخضع في العادة لأي منطق، وإنما تخضع فقط لتقلبات مزاج الرئيس. تلك هي قناعتي، ولكني وعلى الرغم من ذلك، فإني أرى بأن محاولة تهجي "الرسائل المزاجية" التي حاول الرئيس أن يبرقها إلى جهات شتى من خلال هذا التعديل الأخير، بأن محاولة تهجي تلك الرسائل قد لا يكون بالجهد الضائع، ولا بالأمر العبثي.
تعديلٌ يبارك تعديلاً
هناك رسالة أرسلها التعديل الوزاري الأخير إلى صندوق بريد المنتدى، وإلى صناديق بريد كل رافضي تعديل الدستور. تقول هذه الرسالة، وبلغة سياسية فصيحة وصريحة، بأن الترويج الذي قام به الوزراء الثلاثة لتعديل الدستور لم يكن بمبادرة خاصة منهم، وإنما كان بمباركة من الرئيس. لو لم يكن الرئيس يبارك الدعاية لتعديل الدستور لأقال على الأقل أحد الوزراء الثلاثة.
الوزير الأول في قلب الرئيس
هناك رسالة أخرى من رسائل التعديل الوزاري الأخير تقول بأن الرئيس راض عن وزيره الأول، وبأنه ماض في توجيه الصفعات القوية لخصوم وزيره الأول، ففي هذا التعديل الوزاري الأخير وجه الرئيس صفعتين قويتين لخصمين من خصوم الوزير الأول. الصفعة الأولى تم توجيهها للوزير الأمين العام للرئاسة، وتمثلت في إقالة آخر وزير يحسب له في الحكومة (وزيرة الثقافة). أما الصفعة الثانية فقد تم توجيهها إلى وزير الخارجية، وتمثلت هذه الصفعة في تعيين وزيرة أمينة عامة للحكومة كانت علاقتها سيئة جدا ـ وحسب ما كان ينشر حينها ـ بوزير الخارجية، يوم كان هو مديرا للديوان، وكانت هي مديرة مساعدة في الديوان.
يبدو أن الوزير الأول الحالي قد أصبح هو رجل النظام الأقوى، وإن في ذلك ما يقلق. فعلى مستوى الحكومة فقد تمكن الوزير الأول أن يجعلها حكومة من خالص حلفائه، هذا إذا ما استثنينا وزيرين أو ثلاثة يتقلص نفوذهم يوما بعد يوم. أما على المستوى السياسي فقد تمكن الوزير الأول أن يسحب من الحزب الحاكم الكثير من صلاحيته التقليدية، ولذلك فلم يكن غريبا أن تتولى الحكومة مهمة التشويش على مهرجانات المنتدى في الشرق الموريتاني، ولا أن يتولى ثلاثة من وزرائها مهمة الترويج للمأمورية الثالثة.
ومن المصادفات اللافتة أن هذا التعديل الجزئي الذي عزز من مكانة الوزير الأول كان قد تزامن مع خبر نشرته الوكالة الموريتانية للأنباء، وقد جاء في هذا الخبر: " أشرفت السيدة مونيك حدمين، حرم الوزير الأول رفقة السيدة كمبا با وزيرة الشباب والرياضة مساء اليوم السبت بملعب كرة السلة بدار الشباب القديمة بمقاطعة لكصر على حفل توزيع جوائز على الفائزين فى الماراتون الوطنى للرياضة.
وقدمت حرم الوزير الأول جوائز نقدية للفائزين الخمس الأوائل، فيما قدمت وزيرة الشباب والرياضة عددا من الجوائز من الدرجة الثانية، في حين استفاد بعض ذوي الاحتياجات الخاصة المشاركين بالمارتون من جوائز نقدية." من فضلكم، لا تسألونني عن السبب الذي جعل الوكالة الموريتانية للأنباء تذكر بأن الجوائز التي قدمتها الوزيرة كانت من الدرجة الثانية.
تودد للشرق الموريتاني
كل الوزراء الجدد الذين جيء بهم في هذا التعديل الأخير ينحدرون من ولايات الشرق الموريتاني، وفي ذلك مغازلة لأهلنا في الشرق، وفيه أيضا محاولة للرد على رسائلهم غير المشفرة التي بعثوا بها منذ أقل من شهر، وعبرالبريد المضمون إلى بريد الرئيس. لم يكن من الوارد تأجيل الرد على تلك الرسائل التي أرسلتها ساكنة الولايات الشرقية، وهي الرسائل التي تمثلت فيما تم تنظيمه من استقبالات حاشدة لوفد المنتدى الزائر. لقد اختار
الرئيس أن يرد على تلك الرسائل بالرد التقليدي المتمثل في تعيين وزير أو وزيرين من ولاية ما لكسب ودها. هذا الأسلوب التقليدي لم يعد مجديا في وقتنا الحاضر، وإذا أراد الرئيس أن يمتص غضب أهلنا في الشرق أو الغرب، في الشمال أو الجنوب، أو في الوسط الموريتاني، فما عليه إلا أن يطلق مشاريع تنموية في تلك المناطق ويشيد البنى التحتية بها. أما تعيين وزير أو وزيرين من هذه الولاية أو تلك فإنه لن يغير في الأمر شيئا.
لا جديد بالنسبة للمواطن
من بين رسائل التعديل الجزئي الأخير هناك رسالة تقول بأن الرئيس لا يفكر إطلاقا في تخفيف المعاناة عن المواطن الموريتاني، وبأنه ليس منشغلا بالبحث عن وزراء لهم القدرة والكفاءة، ولا عن حكومة قادرة على مواجهة الأزمات التي تتخبط فيها البلاد، وهناك ـ وللأسف ـ أدلة عديدة تؤكد ذلك: أولها: الاحتفاظ بهذه الحكومة التي يكاد الشعب الموريتاني أن يجمع على فشلها، وعلى أنها هي أسوأ حكومة عرفتها البلاد.
ثانيها: أن الوزراء الجدد الذين جاء بهم الرئيس في تعديله الأخير لا يمتلكون سيرا ذاتية تبشر بأنهم سيغيرون من حال قطاعاتهم نحو الأحسن، فهم لا يملكون خبرة متراكمة في القطاعات التي تم تعيينهم عليها، ولا يمتلكون خبرة سياسية، وأغلبهم لم يكن معروفا، وحتى موقع الوكالة الموريتانية للأنباء فقد عجز عن تقديم سير اثنين منهم، ولذلك فقد اكتفى الموقع بنشر صورة وزيرة واسم وزير بدلا من نشر سيرهما الذاتية.
ثالثها : الاستمرار في التفكيك والدمج العبثي للقطاعات الوزارية، ودون أن يكون ذلك نتيجة لدراسة أو لرؤية واضحة. ولقد نال التعديل الوزاري الأخير حظه من عمليات التفكيك العبثية، حيث تم تفكيك وزارة الإعلام للمرة
الثالثة في أقل من عامين، ففي المرة الأولى سحب منها الاتصال، وفي المرة الثانية أضيف لها النطق باسم الحكومة، وفي الثالثة، أي في التعديل الوزاري الأخير، فقد سحب منها النطق باسم الحكومة، وسيظهر هذا النطق في وزارة الثقافة، والتي كانت هي بدورها تجمع بين الثقافة والشباب والرياضة من قبل أن يسحب منها الشباب وتضاف إليها الصناعة التقليدية، ولا يعرف حتى الآن إن كانت مؤسسات الإعلام الرسمي سترحل مع الوزير إلى وزارة الثقافة أم أنها ستبقى في وزارة العلاقات مع البرلمان والمجتمع المدني. إن هذا النوع من التفكيك والدمج العبثي للقطاعات، والذي شمل خلال فترة الرئيس الحالي العديد من الوزارات ليؤكد بأن هناك غياب رؤية واضحة للعمل الحكومي، وعندما تغيب تلك الرؤية، فإنه علينا أن لا نتوقع عملا حكوميا جدا.
وللنساء حظٌ من تلك الرسائل
يمكن القول بأن التعديل الوزاري الأخير قد بعث برسالة إيجابية جدا إلى النساء، فقد جاء هذا التعديل بوزيرتين جديدتين ليصل بذلك عدد النساء الوزيرات في الحكومة الحالية إلى تسع وزيرات، وهذا رقم غير مسبوق في
الحكومات الموريتانية، وهو يؤكد بأن هناك اهتماما متزايدا من الرئيس بتعيين النساء، حتى وإن كان النساء قد خسرن في هذه المرة وزارة الثقافة، والتي ظلت حكرا لهن منذ انقلاب السادس من أغسطس.
يبقى أن أقول بأن زيادة نسبة تمثيل النساء في الحكومات قد لا يكون دليلا قاطعا على اهتمام الحكومة بالنساء، وهذا يقودنا إلى قضايا ذات صلة يكثر الحديث عنها مع كل تعديل وزاري. إن الرفع من نسبة الوزراء في أي حكومة قد لا يعني بالضرورة أن هناك اهتماما خاصا بالمناطق أو بالشرائح التي ينحدر منها أولئك الوزراء. إن تعيين عدد كبير من الوزراء المنحدرين من الشرق الموريتاني لا يترتب عليه بالضرورة تحسن أحوال مدن الشرق الموريتاني،
وإنما يترتب عليه فقط تحسن أحوال تلك الأسر التي ينحدر منها أولئك الوزراء. نفس الشيء يمكن أن نقوله عن بقية الجهات والمناطق، ويمكن أن نقوله أيضا عن الأعراق والشرائح، فتعيين حكومة كاملة من لحراطين مثلا،
وهم الذين يستحقون تمييزا إيجابيا، قد لا يترتب عليه بالضرورة تحسن حال أهلنا في آدوابه. إن المطالبة بالرفع من التمثيل المناطقي أو الشرائحي في الحكومات هي قضية ساذجة تطرحها بعض النخب من أجل تحقيق مصالح خاصة بها،
فتعيين عشرة مفسدين أو عشرين وزيرا من عديمي الكفاءة من ولاية واجدة في حكومة واحدة لن يأتي بنتائج إيجابية لساكنة تلك الولاية، بينما لو تم تعيين حكومة من الكفاءات النزيهة، حتى ولو كان كل وزرائها من قرية
موريتانية واحدة، فإن ذلك سينعكس إيجابا على عامة الناس في شرق البلاد وغربها، في شمالها وجنوبها.
في بعض الأحيان أتمنى أن يتم استيراد وزراء من السويد أو من النمسا مثلا، وذلك لاعتقادي بأن أولئك الوزراء سيكونون أكثر خدمة وأشد رأفة بالمواطن الموريتاني من وزراء مفسدين أو عديمي الكفاءة كهؤلاء الذين يتعاقبون علينا مع كل تعديل حكومي، أو مع كل إعلان لحكومة جديدة.
حفظ الله موريتانيا..