ما بين ضعف المستوى بالمعنى الواسع والمهادنة في الحق، تتأرجح مهنة الصحافة في موريتانيا عموما، ونعني الصحافة بشقيها المستقل والرسمي، وسنركز في هذا المقال بإذن الله، على الصحافة الخاصة، أو ما يدعى بأنه صحافة حرة أو مستقلة.
أجل ضعف المستوى، مثل ضعف الأخلاق والأسلوب في الحصول على وسيلة إستمرار، وحتى في محاولة الحصول على الخبر نفسه.
فوضعية الصحفي المستقل في موريتانيا، تدفع قسرا إلى التملق والاسترزاق بأبشع الطرق أحيانا بإختصار.
وهذا المعنى قد يصيبنا جميعا أو أغلبنا، وإن بصور متفاوتة، في سياق من إكراهات مهنة شرعت ولا يراد لها أن تكون، لا من قبل السلطة ولا من قبل شطر كبير من مجتمع محلي متحامل يذم التسول ويخص الصحافة بذلك أحيانا، رغم أن جميع المهن من الرئيس إلى البواب، يمتهنون هذه الخلة الخسيسة "التسول" في أوضح وأقبح الصور والأشكال والمضامين، ولا يراد للصحافة أن تكون مثلهم، وقد تضع دلالة تلك الإرادة بين الفهم السقيم والسليم، خصوصا أن المتاح جيفة في أغلب الأحيان قد لا يناسبها إلا التسول والأكل في حدود الحاجة الملحة فحسب، ولها حكم معروف، هو حكم ضرورة واضطرار، دون أن يتجاوز الآكل بغية تكريس واقع الأكل من الجيفة، أو تجاوز ما يقيم الصلب ويريح من قرصة الجوع القاتل والحرمان المؤلم، المفضي أحيانا لأشد وأخطر المجهول أو المعلوم من بوائق ردات الفعل.
قال مولاني جل شأنه في إباحة الجيفة للمضطر حقيقة للأكل منها للنجاة من الموت جوعا، والقياس قد يكون جائزا عند البعض في حالات معنوية أخرى، مع ضرورة الخبرة والتمييز وحسن القصد وسلامة الاستدلال بالمضمون الشرعي بإختصار.
أقول قال الله سبحانه وتعالى: " فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ".
أقول للصحافة إن شئتم إسألوا وتسولوا ما لم يعطوكم حقكم من المال العمومي، الذي استباحه المجتمع ووصفوا سارقه أحيانا بـ"اتفكريش"، واستباحه قبلهم الحكام والمتنفذون، العسكريون والمدنيون، وغيرهم من مختلف المستويات تقريبا، ولم يجدوا من عيب في صنوف التسول والتسكع والإستجداء باسم الدين والدولة والمؤسسة العسكرية ومختلف صنوف الظواهر والهيئات المدنية، أقول لم يعيبوا على أنفسهم، على غرار "يرى العصى في عين أخيه ولا يراه القذى في عينه".
إسألوا تسولوا تسكعوا، إن أراد بعضكم ممن رضي لنفسه هذا الأسلوب، فدعمهم للصحافة، هدفه توريطنا ربما، بديون الصندوق الاجتماعي دون أن يكون لنا قدرة على الوفاء موضوعيا، دون تسديد واقعي كامل لمبالغ التأمين الاجتماعي لدى صندوقه أوما يترتب على "نيف" الضرائب، وغير ذلك من حيل الأسر والالتزامات المالية المختلفة، مقابل دعم رمزي سنوي لا يتجاوز عند الأكثرين 300 ألف أوقية، ليتحول الأمر يوما ما إلى ورطة مالية محرجة، معوقة للعمل الصحفي الالكتروني والورقي بوجه خاص، على غرار ورطة السمعي البصري، بما يترتب عليه تصاعديا من حقوق البث، هي الآن سر ورطته وتعويق جانب مهم من أداء هذا المشروع السمعي البصري، إلى جانب أيضا ما يحفه ويهدده بإستمرار من مصادرة وحصار ومنهج مؤلم، يهدد بعمق حرية الصحافة في بلدنا، في ظل نظام عسكري بواجهة شعاراتية ديمقراطية زائفة، تميل بحق للخنق والحرمان بدل التماهي مع شمس الحرية، التي تفرض نفسها عالميا وكونيا على نطاق فضاء واسع مطلق تقريبا، لم يعد من الممكن حجبه بداهة.
الوضع إستثنائي إلى أقصى حد، هذا الفريق من اللصوص الذي يحكم البلد قد لا ينفع معهم إلا السؤال والإحراج على الأقل، لأنهم سيؤون لا يخافون الفضيحة ولا يعرفون لغيرهم حقا أصيلا مشروعا موضوعيا في هذا المال العام، ولا ينفع معهم إلا التحدي وفرض الذات على رأي البعض.
فما الذي يبرر لهم الإستئثار بالمال العام والشأن العام، ورأس السلطة أكبر هؤلاء اللصوص في نظر البعض، فقد إستحوذ على الحكم والمال معا بغير حق، هو ومن قبله، من جميع المتغلبين وحلفاء المستعمر، بدء بحليف "أنصاره" رحمه الله المختار ولد داداه، ومرورا بمعاوية وغيره وإلى اليوم، ونعني طبعا باليوم حاكمكم الأرعن محمد ولد عبد العزيز، الذي قال بأنه بلا لحية أو على الأصح بلا حياء في نظر البعض وتحامل على رموز النخبة المعارضة وأستخف ببعض السنة "قصوا الشوارب وأعفوا اللحى"، مما يعتبره البعض وإن قل، بعض المعلوم من الدين ضرورة وبداهة.
الصحافة أقل منكم جميعا أيها اللصوص، حظا من هذه الجيفة المستباحة، ولكن انتظروا سيأتي يومكم بالمعنى الدنيوي والأخروي بامتياز، وواصلوا معشر الكتاب الجريئين –وإن قلوا-كشف الفضيحة المدوية، لص كبير يعتقل لصا صغيرا، وسائل كبير ومتسول ضخم الجثة والهيئة بسبب كثرة التسول وسعة الاستفادة غير المشرفة يعيب على سائل متسول صغير ضعيف البنية رث الثياب، مستحق بسبب الحالة على رأي الكثيرين.
أجل لا حق لكم في إقامة السجون ربما، لصغار اللصوص، فالسجون أنتم أجدر بها بإيجاز، وتسولكم أعفن من تسول غيركم، أيتها الكلاب المسعورة المريضة المعدية، وحالة تسولكم ولصوصيتكم هي التي تحكم العالم العربي بالمقلوب، فاللص الكبير هو المتسول المحترف يسجن اللص الصغير، ويجرم المتسول العادي المستحق بالمعيار الإنساني والشرعي ربما، مهما قيل عن التسول ومن ضرورة العفة والحرص على الأسلوب المناسب لهذه المهنة عند الضرورة فحسب، ومع أكبر شروط ما يناسب تلك الظاهرة حتى لا يتحول الإستثناء إلى حالة عامة مهيمنة، لكن الذين يسرقون المال العام ويتسولون باسم الشأن العام يسجنون اللص الصغير بسبب قنينة غاز ويعيبون على المتسول الصغير درهم معاش ملوث قليل.
هذه أعوام الرمادة في موريتانيا عموما، بل في العالم أجمع ربما، وبنوككم المحصنة بالحراسة قد لا تستحق ذلك عند التحقيق في ماهيتها، فهي حصن الربا والأموال المسروقة غالبا، وأسواقكم مليئة بمواعيد وأجواء اللقاء والتلاقي الحرام وهي بؤرة أحيانا لتبييض المال العام، وقد لا تستحق في رأي البعض وإن لم أوافق أو خالفه الكثيرون، أقول قد لا تستحق هذه الأسواق الأمان بمعنى ما، مهما ادعيتم أنها أموال الناس وأموال المسلمين بغض النظر عن أخطائهم وما إقترفوا.
وللأمان والتأمين من الفتنة يجب علي التصريح بواجب حفظ بيضة المسلمين جميعها بغض النظر عن أخطائهم وزلاتهم جميعها، ويبقى هذا موضوع جدل مشروع حرج، لأننا لم سلمنا بضرورة الأمن والأمان للجميع، ولو تسولوا ولو سرقوا المال العام، لكن لماذا تؤمنون السارق الكبير، وتعتقلون من لم يأمر الخليفة العادل عمر بن الخطاب رضي الله عنه عام الرمادة بعقابه وتطبيق الحد عليه.
إنها مرحلة الحيرة بامتياز.
ومما يروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ماذا تفعلون إذا طغى شبابكم وفسدت فتياتكم، قالوا أو كائن ذلك يا رسول الله، قال: أو أشد سيكون"، قال ماذا تفعلون إذا لم تأمروا بالمعروف ولم تنهوا عن المنكر، قالوا أو كائن ذلك يا رسول الله، قال، ماذا تفعلون إذا أمرتم بالمنكر ونهيتم عن المعروف، قالوا أو كائن ذلك يا رسول الله.
قال فو الله لتكونن فتنة يصير الحليم فيها حيرانا.
سجونكم قد لا تكون مشروعة، فأنتم سائرون بأشد "الأمانة" على مذهب بني إسرائيل، إذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد وإذا سرق فيهم القوي تجاوزوا عنه، كما ورد في حديثه النبوي الشريف صلى الله عليه وسلم,
وهلم جرا....
إذا ربما يكون على رأي البعض تسول الصحافة المستقلة أو الرسمية اضطراري بامتياز، وقبيح في الأصل لأن النبي صلى الله عليه وسلم علم أصحابه هجر جميع صنوف السؤال والتسول، حتى أحدهم أمره صلى الله عليه وسلم إذا سقط سوطه من فوق دابته وهو راكب عليها، أن لا يأمر أحدا بمناولته إياه، وإنما ينزل عن دابته ليسترد سوطه بنفسه، فمن باب أولى غير ذلك من السؤال القبيح في الأصل والأحوال العادية، أما اليوم فقد اختلط الحابل بالنابل، وأبو ذر الغفاري رضي الله عنه الصحبي الجليل على رواية البعض، يستغرب وضع الجائع المحروم المغبون وسكونه واستسلامه وخوره، لماذا لا يقاتل بسيفه من أجل رغيفه.
تشرعون مهنة الصحافة في مطلع التسعينات وإلى اليوم وتحتفون ببيانات "مراسلون بلا حدود" في هذا الشأن بحجة أنكم تساعدون في ترسيخ حرية الإعلام، خداعا وتحايلا وتلاعبا بالكلمات، ثم تمنعونها كسرة رغيف ملوث وقطرات ماء وسخ، وبعد ذلك تقولون "أتباع سدوم ولد انجرتو" رحمه الله.
سدوم ولد أنجرتو كان فنانا مبدعا في مجتمع طبقي "ينستر" أحيانا أي هذا المجتمع، ثم يفسدها بالمن والأذى أحيانا أخرى، فيذهب المثل ضد الفنان رغم خدماته للمجتمع، رغم أنه نال أغلب رغيفه بقوة الإبداع واستغلال التفوق العقلي والخيال الواسع والخبرة بثغرات المجتمع، في سياق أحيانا من المدح وغيره، وفي المقابل عندما حصل قدوة بعضنا من "الإعلاميين المفتونين" على رغيفه أو بعض حاجته القليلة في الغالب، لم يسلم من سهم اجتماعي مزمن الضرر.
قال أحدهم لأحدنا، عندما تذكر الصحافة يذكرني ذلك تلقائيا بـ"سدوم ولد أنجرتو" رحمه الله، هكذا دأب هذا المجتمع العنصري الطبقي المتحامل، على الاستجابة أحيانا لضغوط السؤال والإحراج، في سياق ما مثل سياق الإبداعي الفني دون أن يكل عن إتباع الحسنة السيئة، على الأقل عبر مثل يردد ويستمع عند الحاجة أو رد بعض أصحاب الحق المغبونين، "وفي أموالهم حق للسائل والمحروم"، "يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى"، سدوم ولد أنجرتو رحمه الله "لم يسأل باسم الدرع الإسلامي ولم يتنقل مرارا بين السعودية ونواكشوط وغيرها، من أجل التسول باسم الشأن العام والدفاع عن نظام خليجي فاشل على رأي البعض أو يستغل الحرمين أحيانا وعواطف المسلمين وحساسية المنطقة، لدى السنة خاصة والمسلمين عامة، وسدوم ولد أنجرتو رحمه الله في ثوب رجل أعمال لم يأخذ مشروعا بواسطة "الحجابة" أو أحدهم أو أكثر عافاهم اللهم، ولم يستطع في النهاية إكماله وإتقانه.
وسدوم ولد أنجرتو رحمه الله وأبناء عمومته نسبيا من "إيكاون"، أو الإعلاميين المحرجين المضطرين، لم يستغل البرلمان أو القضاء أوالسلطة التنفيذية عموما أو الدين لدى "حجاب"، أو القدرة العلمية الواسعة للوصول لمآرب شتى على حساب الدين نفسه أو الأمانة عموما وغيرها، وعلى حساب المجتمع أولا وأخيرا، والضعفاء منهم بوجه خاص.
فأول من تندلق أقتابهم في نار جهنم الثلاثة، فريق يستغل الجهاد ليقال شجاع وليس من الشهادة حقيقة، وثاني ينفق من أجل أن يقال في الدنيا كريم سخي جواد، وليس لله فحسب، وثالث يتلون ويتنوع أحيانا باللحية أو الزي أو زحلقة اللسان، أو مختلف صنوف التلاوة وطري الكلام ونضارة الوجه والشعر المهذب ربما بالأصباغ، السوداء أو غيرها، ليقال إماما عالما مفحما، وبعيدا عن قصد الإلتزام والتعليم المجدي النافع والإخلاص المحصن.
هؤلاء الثلاثة أول من تندلق أقتابهم في نار جهنم عقابا من الله جزاءا على خداعهم النوعي، الذي حصلوا به الكثير وخدعوا به الكثيرين دون حياء من الله أو من الناس، وضلوا وأضلوا الآلاف والملايين أحيانا من أمواج البشر، والفيلق الثلاثي حقيقة إنتهازي بإمتياز خبير بصنوف التأثير واستغلال الدين ووظائف وألقاب الدنيا المختلفة، وطبعا مع تدني مستوى الجدية وغياب الإخلاص والتجرد.
والموضوع طويل يحتاج إلى مقالات عدة ربما، وستتواصل حلقاته بإذن الله.
وأقول باختصار، الصحافة ربما ليست الأكبر والأبشع تسولا وإسترزاقا، وإن كانت فاشلة ذاتيا ويقصد لها الفشل باستمرار في سياق أكبر وأعم.
ولا خير في صحافة تمتهن الاسترزاق طوعا أو إكراها واضطرارا، بغض النظر عن جميع المبررات فلتتوجه الدولة والجهات الاجتماعية كلها لدعم الصحافة معنويا وماديا كمنبر توجيهي في سياق مفهوم الصحفي الصحيح، الصحفي الشخص المخول بالحصول على الخبر ومعالجته دون ضغوط أو مخاطر، فالقول بأنه متسول مهما كانت وضعيته بغض النظر عن سياق مهنته وواقعها المزري تحامل واستفزاز وضغط نفسي وتعويق عن أدائه بعض مهنته الضرورية لتوازن المجتمع والدولة معا، أجل ينبغي أن تدعم الصحافة حتى ترشد وتقوى وأغلب الجهات النافذة المفسدة للمجتمع والوطن لا تريد رؤية صحافة حقيقية مستقلة جادة وسطية شاهدة بأمانة على الواقع جميعه.
وما دمنا نتحامل على هذه المهنة دون مشاركة الجميع، شعبيا ورسميا في خلق مناخ مواتي لأدائها لمهنتها بعيدا عن التسول والإخلال الواسع بأخلاقياتها، فنحن لا نريد إذا أن تصلح باختصار.
كفى تحاملا على الصحافة وكفى الصحفيين انهيارا أخلاقيا مهما كانت بعض المسوغات أو الإكراهات، وأما أن يكرس الجميع نقيض أخلاقياته في مهنته الخاصة أيا كانت، من الرأس إلى البواب، ثم نطالب الصحافة وحدها بالالتزام بأخلاقيات مهنتها الفقيرة المستهدفة المميعة عن قصد غالبا، فذلك غير أمين وغير منصف.
وعموما لا يراد لهذه الحرية الإعلامية أن تترسخ، لأنها تشكل خطرا شاملا مفزعا للمفسدين الحقيقيين، قبل الوصول لمفسدي و"بشمركة" الصحافة وإن كثروا.
ولهذه الأسباب كلها، فضل أغلب زملائي التطبيع، أي التطبيع مع الواقع وعدم محاربته بصورة جادة صبورة طويلة النفس، لأن ذلك ربما يمنعه ويعوقه قانون "الميمات الثلاث" الذي لم ينشر بعد في الجريدة الرسمية، كما أن الـ"هابا" قبل حلها، لا تحب المتطهرين من درن تيار الاستبداد والاستحواذ على الشأن العمومي والمال العام، وإنما تفضل صحافة التطبيع مع الواقع على حساب الأقلية الجادة، مهما كانت بعض عيوبها الوازنة أحيانا فلا غرابة فلكل عمل بشري خطأ وصواب ومن تبين رفضه لمذهب التطبيع حرم من الدعم أو قل نصيبه على الأقل وإلى الحلقة الثانية بإذن الله مع مزيد من التفصيل حول موضوع "صحافة التطبيع" مع الواقع.