
التقيت بالقس الإفريقي الأمريكي المناهض للتمييز العنصري، رفيق درب مارثن لوثر كينغ، وأول أسود يترشح لمنصب رئاسة الولايات المتحدة الأمريكية، خلال الأشهر الأولى من سنة 2017. وكان الأسودُ المنافح من أجل الحقوق المدنية للملونين في أمريكا قد تكالبت عليه السنين والأمراض، لكن عزمه مازال جذعاً. فهمت من حديثه أنه قرأ عني بعض
الأخبار، وأن صديقي شان تانر زاده إقناعا بضرورة دعم الكفاح الصادق والسلمي الذي تخوضه منظمة إيرا ضد الاستعباد وغيره من مظاهر شطط الحكامة في موريتانيا.
ونظراً لمرضه وشيخوخته، كلف القس جيسي جاكسون ابنه الأكبر، جوناتان، بقيادة الوفد الحقوقي الأمريكي الذي حطت به طائرة من الخطوط الجوية الفرنسية في مطار نواكشوط بغية لقاء الحكومة ومنظمتي إيرا ونجدة العبيد. رفض النظام الموريتاني، الحاكم آنذاك،
دخول البعثة الأراضي الموريتانية، وأبعدها إلى فرنسا، فوجهت دعوة للوفد للقدوم إلى داكار لتنفيذ ما أمكن من برنامج الزيارة بدل الرجوع إلى أمريكا بدون نشاط يذكر. فكان برنامج داكار انتصاراً إعلاميا وديبلوماسياً مدوياً على الحكم الموريتاني.
واليوم، 10 مايو 2025، نظم لي شان تانر وباكاري تانجا زيارة لآل جاكسون؛ وكان الجمع الغفير من أتباع القس المناضل الطاعن في العمر موجودين بكثرة في قاعة المؤتمرات لمنظمة ريمباو بوتش، وكانت فِرق للموسيقى الدينية المسيحية تتبادل الأدوار على المنصة، تعزف الكورال: أي الموسيقى الدينية عند المسيحيين، وهو الفن الذي اتخذه
العبيد في أمريكا كأداة لنشر فكر التمرد والانعتاق.
كان في استقبالنا ابنا القس جيسي جاكسون : جوناتان ويوسف. صعد الابن الأكبر جوناتان المنبر ورحب بنا ترحيباً حاراً، وسرد للحضور رحلته إلى موريتانيا التي قادته في الأخير إلى السينغال وما لاقاه عند مطار نواكشوط من تعسف، وتأسف لمواصلة النظام الموريتاني التعنت في رفض تطبيق القوانين الوطنية التي وضعتها السُّلَط الموريتانية، حكومة وبرلمانا. كما انتقد انتهاك الاتفاقيات الدولية لحقوق الإنسان التي صادقت عليها موريتانيا بكامل إرادتها، وأكد أن التغيير الديمقراطي والتناوب السلمي لن يحدث في موريتانيا ما دام الماسكون بالسلطة يرفضون تسليم الأوراق الثبوتية وبطاقات التعريف والتصويت لعدد كبير من العبيد والعبيد السابقين في البلد، واستدلّ بتاريخ نضال أبيه ورفاقه كمارتن لوثر كينغ وآخرين من الذين رفعوا شعار: "لا فائدة بشهادتك بدون بطاقة تصويتك"، وحث جوناتان جاكسون نائبة كبير الشرطة بمدينة شيكاغو يولاندا تالي ونائبة عمدة مدينة شيكاغو بياتريس بونس دالايون الحاضرتين في اللقاء كمناضلات جاكسونيات إلى الدفع إلى مزيد من منح الحماية لطالبي اللجوء من دول العالم، و خاصة طالبي اللجوء الموريتانيين. وهاجم جوناتان جاكسون، في خطابه الحماسي الذي لاقي التصفيق الحار والتهليل من الجمع الكثيف، الرئيس الأمريكي دونالد ترامب وسياسته المجحفة بالفقراء حسب تعبيره، كما هاجم الحكومة الإسرائيلية والتضيق على الفلسطينيين ومنعهم من وطن مستقل ومن الأمن والعيش الكريم.
وعند نهاية الخطبة، دخل الأسد الشيخ جيسي جاكسون، وهو على كرسي متحرك. كانت نظراته معبرة، ولكنه عاجز عن الكلام. كان على وجهه الكثير من الوقار، وكان محاطاً بموكب مهيب وعناية فائقة من طرف من يحيطون به، وبدأ الحضور يصافحونه. أول من صافحه رئيسة وفد سويدي يتألف من ما يزيد على عشرين شخصا. وحين اقتربت منه وانحنيت لمصافحته، مسك بيدي ولم يطلقها، فبقيت منحنياً (وان امن أهل اظهر، ما نحمل الدنكيس)، ولكنني صبرت (ما عندي ماهو اصبر)، لِما رأيت في عيني المكافح التسعيني من تعابير المحبة والرضا عن الزمالة النضالية التي تجمعنا من وراء القارات والبحار والثقافات والأديان، وبرغم فارق السن.
وعند انتهاء تناول فطور متواضع، ودعنا الشيح المقعد وفي ملامح وجهه ونظراته عناد المقاومين، وأنا متعظ ومستسلم لقوة وأمر ربي، فما بعد التمام إلا النقصان، فالمناضل الرمز، جيسي جاكسون، أقعده المرض واستبدت به السنون، لكنه مازال متماسك الموقف والفكر، لم يبدل، ولم يتعب، ولم يركن للذين ظلموا، وقد منّ الله عليه بأبناء يواصلون كفاحه من بعده.. اللهم أحسن خاتمتنا.
شيكاغو، 10 مايو 2025/ مقر ائتلاف ويمباو بوتش