ظل حلما يراودني ، منذ كنتُ طالبا في التعليم العالي، أن يكون لي الشرف في الحصول على مؤلفات القاضي بانمُ بن أحمد الشمسدي الأطاري، وأن أعمل على تحقيقها ونشرها.
مرَّ زمن طويلٌ، دون أن تلوحَ في الأفق بارقةُ أملٍ للولوج إلى مؤلفات القاضي بانمُ ونفض الغبار عنها أو عن جزء من عطائه العلمي الغزير، إلى أن وُفِقتُ للتعاون مع القائمة على المكتبة الخليلية، من أجل التعريف بالمخطوطات الخليلية.
فكانت تلك بداية الطريق للوصول إلى بعض المعلومات المتعلقة بتاريخ وآثار بعض علماء مدينة أطار ومن بينهم الإمام المجذوب محمد بن أحمد بن أحسين والقاضي بانمُ بن أحمد.
وفعلا حصلتُ على وثيقة وحيدة وهامة، بخط يد القاضي بانمُ من المكتبة الخليلية في أطار، تتعلق بمطارحة فقهية واسعة النطاق، شارك فيها علماء كُثـُر من مختلف مناطق البلاد، تتعلق بنازلة عينية مفادها تطليق امرأة نفسها بأمر من القاضي بانم، بعد أن بيَّنَ الأسبابَ الموجبة لذلك، من طول غيبةٍ وعدم وفرة النفقة والكسوة.
وبالرغم من عدم وجود نسخة ثانية من هذه الرسالة، إلا أنني اعتمدت عليها لأنها بخط المؤلف ولأنها أيضا مقروءة بشكل تام.
تحتوي هذه النسخة على ثلاث وخمسين صفحة من ورق ذو حجم صغير، مكتوبة بخط مغربي جميل.
ووجدت الرسالة مكتوب عليها "أسئلة بان أم وأجوبة الشيخ سيدي"، وهو عنوان لا يعبر عن مضمون هذه الرسالة، فهي عبارة عن فتوى وجهها بانمُ أولا إلى الشيخ سيدي لمعرفة رأيه فيها، لكن هذا الأخير اعتذر عن الرد كتابيا، مما استدعى من بانم أن يعرضها على علماء من مدينة شنقيط،الواقعة فيها المسألة، حيث دارت بينه وبينهم مناظرة علمية رصينة.
تتجلى أهمية هذه الرسالة في جملة من النقاط، سوف نعرضها متتالية:
أهميتها في الدعوة إلى إسقاط النصوص المطلقة على أعراف الناس وواقعهم لتيسير تطبيق شرع الله جل وعلا وتحقيق العدل، باعتبار العرف أحد القواعد الخمسة التي بني عليها الفقه، مما يجعل الأحكام القضائية مرنة بحسب الأحوال والأمكنة والأزمنة والعادات، تراعي التيسير ورفع الحرج، وتـُوائم بين مقاصد الشرع والنوازل والمستجدات وتزيل الإشكالات وتحل المعضلات، وهو ما يجعل هذه الشريعة صالحة لكل زمان ومكان
ـ أهمية الفقهاء المشاركين في هذا الحوار من الناحية المعرفية والرمزية واختلاف الواقع الذي يعيشون فيه وهذه المسألة حرية بالتوقف عندها، لأنها تضفي على هذه الرسالة درجة من القوة العلمية، سواء في مستوى الأحكام والأدلة أو في مستوى المحاججة أو في مستوى الصياغة، مما يجعل هذا الأثر قابلا لأن يكون موضوعا لنظرات مختلفة.
ـ ومن أهم الزوايا في نظرنا طبيعة الاستدلال، فنجد هذا المفتي، في الوقت الذي يعرض فيه الأدلة الفرعية ويحتج بها، يعتمد أيضا على الاستدلال بالقرآن والسنة، مما يجعلنا نشاهد عملية جمع بين الاجتهادين (الاجتهاد الإنشائي، الذي يذهب صاحبه إلى النظر في نص الوحي بوسائل النظر المعروفة ، والاجتهاد الاستثنائي، الذي يتمثل في الترجيح بين الأقوال المذهبية والاختيار في الخلاف ومراعاة المقاصد والمآلات).
ـ أهمية هذه الرسالة في إعطاء صورة عن الإسلام تنفي الكثير من الشبه والتهم، التي ألصقت به من طرف مناوئيه من غير المسلمين. ومن أخطر هذه الشبه شبهة امتهان المرأة واحتقارها واعتبارها مجرد متاع.
فبين المفتي حق المرأة في اختيار مسارها الأسري، بحسب الأعراف والعادات المتبعة في بلادها، وناقش قضية التعدد، التي اعتبرها الكثيرون وحتى من الفقهاء شرطا من شروط المجتمع، فبين أن الأصل عدم التعدد وأنه إذا كان شرطا للمرأة لفظيا أو معنويا أو عرفيا، فإنه يقضى لها به، لأن المعروف عرفا كالمشروط شرطا، والمسلمون على شروطهم إلا شرطا حرم حلالا أو أحل حراما.
فهذا الرأي الذي دافع عنه المفتي يبين أن دور العلماء في الاهتمام بشؤون المجتمع وخاصة مكوناته الضعيفة وتسييج حقوقهم بسياج شرعي يمنع من الصولة عليهم.
ـ تتعلق أهمية هذه الرسالة في توصيف المجتمع وتبيين نظمه الداخلية وقيمه ومثـُله فتوضح أهمية المرأة في هذا المجتمع بخلاف المجتمعات المحيطة به، الذي يحل المرأة منزلة تتبوأ بموجبها مركز القيادة والقرار، لا في البيت فحسب، بل في المجتمع كله.
وهذا يبرز ذلك البعد الأمومي الذي ميز هذا المجتمع في حقب تاريخه القديمة والذي يعطي صورة مشرفة لسلوك المجتمع تجاه المرأة، يمكن أن تتجاوز ما تدعو له وتنظر له مؤسسات حقوق الإنسان والدفاع عن النوع.
ـ تتعلق أهميتها بكثرة روافد المعلومات الفقهية الموجودة في الرسالة، فالمفتي يحيل إلى كثير من أسماء الكتب وأسماء الرجال، حيث يستغرب القارئ، الملم بتاريخ هذا البلد وواقعه في العصور الماضية، كيف استطاع هذا المفتي الحصول عليها، حتى أن بعضها لم يعد متوفرا، وتدل هذه الكثرة من المصادر على نفي فكرة شائعة عند الباحثين أن المكتبات كانت نادرة، وبالتالي فإن التراكم المعرفي كان قليلا، وهذا تنفيه هذه الكمية الكبيرة من المصادر، التي أحال عليها هذا المفتي، كما يدل على اهتمام أهل هذا البلاد، رغم بعدهم عن حواضر العلم في العالم الإسلامي، بشتى أنواع المعارف وسعيهم الدءوب إلى اقتناء الكتب واستنساخها وتداولها.
ـ أهمية هذه الرسالة في إثارة إشكالية نقض الأحكام القضائية، وكونها تفتح بابا لا يمكن إغلاقه، لكنه بين أن نقض الحكم القضائي لا يصح إلا في حالة جهل القاضي أو ظلمه. وإثارته لهذه الإشكالية يوضح أنه لم تكن هناك محاكم نقض متخصصة في استئناف الأحكام، ويطرح اليوم استشكالا فقهيا يتمثل في أحقية استئناف جميع الأحكام القضائية الصادرة عن المحاكم الابتدائية.
ـ تبين الرحلات المتعددة للقاضي بانم ولأعوانه ـ في غرب البلاد وشرقها ـ أن هذه البلاد كانت تعيش في بوحة من الأمان والاستقرار ، في ظل وجود إماراتيَْ آدرار واترارزة، وأن السيبة كانت مقتصرة على ما يعرف اليوم بمنطقة الصحراء الغربية، كما أوضح ذلك الشيخ سيد المختار الكنتي في فتواه المتعلقة بتحريم السفر إلى تلك المنطقة
ـ أهميتها في الكشف عن أحكام قضائية، غير معروفة حتى الآن، لقضاة كبار، عاشوا في القرن الثاني عشر الهجري، حيث أبرزت الوثيقة تطابق أحكامهم القضائية، رغم بُعْدِ المسافة بينهما، مما يشكل إضافة نوعية وإثراء لمخزون تراث الفتوى في هذه البلاد.
ـ تبرز هذه الرسالة مدى استقلالية القضاء في تلك الفترة الزمنية ونأيه عن أي تأثير للسلطة السياسية القائمة، فالمطارحة كلها تدور حول مدى تطابق الحكم مع تعاليم الشريعة ومقاصدها.
الكتاب موجود في المكتبات التالية :
المكتبة الإسلامية (قرب سوق العاصمة )
مكتبة القرنين 15/21 في عمارة المامي