إن مأساة بعضنا تكمن في إنكاره للحقائق ومحاولته الدائمة والدؤوبة لطمسها بأي مبرر مهما كان واهيا وضعيفا .. إنهم بصراحة عاشقون متصوفون للنصف الفارغ من الكأس ويسعون بكل مثابرة لإشباع ذلك الفراغ عن طريق جَلْدِ الوطن وتشويه صورته حتى أصبحنا محطة للسخرية والتندر..!
إن من تابع تلك التدوينات الكسيحة الفاحشة والعناوين العابسة الحافية من الوطنية ، قبل وبعد اعتقال الإرهابي الفار من السجن ، يدرك دون كبير عناء أن الكثير منا كان يتمنى على الله أن يظل السجين المحكوم عليه بالإعدام حرا طليقا حتى يخلعوا على الوطن ثوبا من الحزن والصدمة والريبة في أجهزته الأمنية ، بصراحة نحن معنيون بالتميز بين من هم مستعدون للموت من أجل الوطن و من هم مستعدون لإفناء أموالهم وأنفسهم لقتل الوطن وتحويله إلى خريبة منزوعة الأبواب والنوافذ..
صدقوا أو لا تصدقوا ، فالوطن لم يعد ذلك البطن الرخو القابل للاختراق في كل الاتجاهات من طرف عصابات الإرهاب والإجرام ، لقد تجاوزنا تلك المحنة التي ظلت البلاد لفترة طويلة من الزمن تعانيها دون أن نسمع ركزا لمن يشعلون الآن صفحات التواصل الاجتماعي والمواقع الإخبارية بدعوى هشاشة الأمن وفشل أجهزته في فرض السكينة وتوفير الحماية للمواطنين ، والحقيقة أن الأمر يتعلق بخلافاتهم السياسة ومعركتهم مع النظام التي تبيح لهم كل الوسائل شريفة كانت أو غير شريفة، إنهم بهذا التصرف المحكوم بكثير من السطحية والغوغائية يضعون أنفسهم في مواجهة مع الوطن حين يقدموه للرأي العام ـ في الداخل والخارج ـ بكل هذه السلبية .
أحداث معزولة لا يمكن تحصين أي بلد من الوقوع فيها حولتنا إلى مسرح كبير لسيرك غبي من المهرجين الذين يسعون بكل بهلوانية إلى إقناعنا أن الأرض فرت من ثوانيها ولم يعد أمامنا سوى تشيع الوطن .. وتكفين أحلامنا في مستودعات الهزيمة والفشل ..!
كيف يعقل هذا الفعل من نخبة تُعول على نفسها ويُعول الوطن عليها في رفع التحدي وبناء جسور للعبور نحو التنمية والرفاه والتقدم .. فعلا لقد صدمنا بهذا المستوى الفظيع من إنكار الوطنية والتجرد منها .
إن الاختلاف في السياسة والصراع على كعكتها لا يسقط حق الوطن علينا في الدفاع عنه وتقديمه بأحسن صورة بنفس الاندفاع والحماس سواء في الموالاة أو في المعارضة ، متمثلين قول الشاعر :
بلادي وإن جارت علي عزيزة .. وأهلي وإن ضنوا علي كرام .
لقد شكل القبض على المجرم المحكوم عليه بالإعدام عملا نوعيا ونجاحا باهرا ونصرا مؤزرا لأجهزتنا الأمنية وقواتنا المسلحة ، ولم يكن ينتابنا أدنى شك في قدرتهم على تحقيق هذا النصر العظيم لثقتنا التامة في مسؤوليتهم وحسهم الوطني ، وكنا نتمنى أن تتلقف القوى السياسية المشككة في قدرة أجهزتنا الأمنية هذا النجاح بالتثمين والامتنان والعرفان بالجميل لأبنائنا الساهرين على حماية هيبة الوطن وسلامة أراضيه ، حقا خاب أملنا في تلك النخب المأزومة التي لا ترضى عن أي شيء .. بل سارعوا إلى التقليل من أهمية الحدث رغم الصخب الذي أحدثوه يوم كان السجين فارا ، إنهم لا يزنون الأحداث بميزان القسط .. فويل للمطففين ..!
هل سيظل الوطن بالنسبة لهم يرقى وينحط بملء بطونهم ومحافظ نقودهم ..!
من المؤلم والمحزن أن تكون حساباتنا السياسية محكومة بهذه المعادلة الغريبة التي لا تقيدها عقلانية ولا منطق .. في الحقيقة يلزمنا وضع شيء من الترتيب والتوازن على فِعلنا السياسي حتى لا تنتقل عدوى حساباتنا وتصرفاتنا الخاطئة إلى أجيال المستقبل .
إن الوطنية ليست ثوبا يخلع ويلبس للمناسبات والاحتفالات الرسمية إنها شيء مقدس يحكم الأفعال والأقوال ويراعي حرمة الوطن مهما بلغ الخلاف مع الحاكم والسلطة ، وعلينا مراعاة هذه القدسية ومنحها مكانها المناسب في الذاكرة والعقد الاجتماعي ، إنها أسمى من كل الانتماءات الضيقة ـ الجهوية والقبلية ـ التي يموت الواحد منا دونها بكل بسالة وولاء.