عبد الله ولد اكوهي
(لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ)..
بادئ ذي بدء ومن اجل استيعاب اكثر للإشكالية الجدلية والأزلية القائمة بين الخير والشر التي نود طرحها هنا في هذه العجالة، تجدر الإشارة إلى التوتر الواضح والجلي بين التزام إيماني بوجود خالق كلي القدرة وكلي الخيرية وحافظ للكون من جهة، وبين إدراك لحالات المعاناة والتي لا تعد ولا تحصى التي تبدو كأنها غير مبررة عند بعضهم قد يتعرض لها الإنسان طوال حياته على وجه الأرض من جهة أخرى. ذلك لحكمة بالغة يعلمها الله جل وعلا علمها من علمها وجهلها من جهلها. ومن هنا اعتبر أن ثمة التزاماً منطقياً بوجود شر في العالم لا يمكن تجاهله فكان هذا التوتر الذي خلّدته الفلسفة. إذن فما الشر؟ وما علاقة الشر بالخير؟ وما العلاقة بينهما?
جاء في تاج العروس لمؤلفه المرتضى الزبيدي حقلاً دلالياً للشر، فنجده يشير إلى أنه نقيض الخير ورديف الفساد والظلم والبغضاء والمخاصمة والمكروه والعيب والسوء والفقر. ويقف الزبيدي عند مسألة مهمة لما يقول: إن مادة شرشر ليست موضوعة في اللغة العربية ضد الخير، بل هي موضوعة للتفرق والانتشار وهو معنى عميق يكاد يربط المعنى اللغوي لهذه المادة بمعناها الفلسفي.
وإذا ما أردنا أن نوجز قول فلاسفة المسلمين في الشر، نقول إن الفلاسفة جعلوا الشرّ ضد الخير وليس نقيضاً له، والضدان يجتمعان معاً على خلاف النقيضين. كما تحدثوا عن صور الشرّ المختلفة من الجهل والضعف والتشويه والألم والغم،" ونفوا أن يكون لـ "الشر المطلق" وجود،في حين يؤكدون وجود "الخير المطلق". كما أنهم ربطوا "الشر بالذات"بالعدم، وأما "الشر بالعرض" فربطوه بـ"المعدم أو الحابس للكمال عن مستحقه". ولا تنعدم الذّات إلا بتشتتها وافتراقها كما يقع للمادة في فسادها على العموم. فكل شيء وجوده على كماله الأقصى، وليس فيه ما بالقوة، فلا يلحقه شر، وإنما يلحق الشر ما في طباعه ما بالقوة، وذلك لأجل المادةّ، كما يقول ابن سينا.
كما أكدّ غير واحد من فلاسفتنا أن الشر والخير بعضهما لبعض ضروري، إذ لا يُتصور أحدهما من دون الآخر "وما لم يخلق النّاقص لا يعرف الكامل...فإن الكمال والنقص يظهران بالإضافة"، كما يقول الغزالي. كما أكدّوا أن وجود الشر في العناصر ضرورة تابعة للحاجة إلى الخير، إذ لو لم تكن هذه العناصر بحيث تتضادّ وتنفعل عن الغالب لم يمكن أن تكون عنها هذه الأنواع الشّريفة، كما سبق ابن سينا إلى القول. والشّرور أيضاً عند ابن سينا تحصل في بعض الموجودات "على سبيل الوجوب واللزوم، لكنها غير خالية عن حكمة تامة وبها يكون قوام العالَم، ولولا تلك الحكمة لما وجدت هذه الشرور". فالقصد من وجود الشر في العالم حكمة تخفى على النّاس بادئ الرأي.
لقد أجابت الفلسفة عن أسئلة الشر التي كانت مطروحةً في الفضاء الفلسفي الإسلامي وكان الاتجاه العام في هذه الإجابة أن الشر غير أصيل في الوجود وأنه يأتي من المادة. وبالتالي فهو من الأعراض الزائلة، وأن الشر لا يأتي دائماً إلا بخير يكون في الأصل ساكناً فيه، والسبب وجود عناية إلهية لطيفة. وقد كان القصد من هذا القول إضفاء طابع عقلاني على قضية الإيمان. فنحن أمام مشكلة فلسفية تواجه كل أشكال الإيمان الممكنة على العموم.
ولأن مشكلة الشر قديمة قِدمَ التفلسف فقد أصبح لها حق منطقي "في أن تكون واحدة من أكثر المشكلات خلوداً في الفلسفة."