الشيخ ولد المامي
بعد أن قويت شوكة آل برمك واستبدوا بالحكم العباسي جاءت نكبتهم المشهورة؛ ولم تكن هذه النكبة حادثة عابرة ولدت من خطأ فُجائي تطلب رد فعل خاطف؛ فقد أملى لهم الخلفية هارون الرشيد عدة سنوات؛ ثم كر عليهم بكيد متين ترك قصة الأسرة الفارسية الأشهر، فصلا في دروس تصحيح التوازن بين قوة الدولة وقوة الفرد.
**
هل تعيش موريتانيا غزواني فعلا تحت حكم جمهوري فصل على مقاس الرئيس، كما يحدده دستور الجمهورية، ولبس أسلافه الرؤساء جلالها حتى الغلالة، أم أن الرئيس مجرد ركن في مقاربة حكم يتألف ربانها من عدة أقانيم، وإذا كان الإحتمال الثاني هو الصحيح؛ فماذا سيكون مصير الدولة في حالما استبد أحد الأقانيم بشركائه، وماذا لو حصل خلاف بين أركان المعادلة، وماذا سيحصل لو كان من بين تلك الأقانيم موظفا عموميا وأحيل للتقاعد وفق القوانين وعلى عكس هواه الشخصي..؟!!
حقا إن سبيل الحكامة هذا لكثير المخالج، وحتى إن ضَبط رمانة الحكم في الوسط إلى حين، فقد شيد صرحه على شفى جرف هار؛ ففي الجمهوريات ذات التصنيف الموزي، تكون الدولة مجرد أرض تؤجر لصالح مستثمرين أغلبهم أجانب، يستغلون خصوبة طينها مقابل عمولات لصالح الصف الأول من المسؤولين؛ وبالتالي فأفراد هذا الصف مجرد باعة يعرضون بضاعة يتأرجح رواجها بين قوة موارد الدولة وعدمه؛ ومن الطبيعي أن من وجد في داخله استعدادا لبيع بلد بالكامل، لن يعدم ثمالة استعداد لبيع شريك سيزيد نصابه من الكعكة إن تم تحييده، فكلما قل الشركاء زاد نصيب الفرد.
لم تعد غاليبة الشعب الموريتاني بمافيها الموالون تثق في كلام رجال الدولة، فعلاقة النفاق بالمنصب أصبحت وثيقة جدا في نظرهم، ومع ثورة الاتصال الحالية تحول الشعب من قطيع مغيب يعيش في كوكب آخر إلى شعب واع، يعي جيدا الفرق بين مراكز القوة، ومراكز الضعف، ويعرف الطريق الأقصر لتحقيق الأهداف، وماعاد هناك شيئ مغطى، فاللعب أصبح على المكشوف.
ولقد أدرك الجميع في الأخير، أن مقاربة لامركزة القرار أستفحل أمرها، وأبانت عن وجهها القميئ في عرصات البلاد، وأن حكم الفرد الذي كنا نخاف منه تحول لحكم أفراد، وأن قوة الدولة تفرق دمها بين القبائل والأشخاص، وأن بعض هؤلاء أصبح دولة وحده، وأصبحت حريته الشخصية هي القانون، ولم تُسنّ القوانين إلا ليجلس متربعا على أريكتها ويمارس مايريد وفق ميزاج رائق وأريحية متناهية، حتى الساسة يارجل أصبحوا يتندرون في مجالسهم الخاصة باستبداد بعض الأشخاص بالقرارات حتى ولو خالف ذلك توجيهات رئاسية مباشرة.
**
بعد قضائه على فلول أوفقير، حظي الجنرال ادليمي بثقة معتبرة لدى ملك المغرب، ووصلت به القوة والشمولية، أن زاد مليما لصالح جيبه الخاص، على سعر كل زجاجة مشروب تباع في المغرب؛ ومع أن الحسن قادم من كابوس الثقة في أوفقير الذي صحى منه على على انقلاب فاشل، إلا أنه منح ادليمي ثقة لا تنقص كثيرا عن تلك التي منح لمحمد أوفقير، لكن تزايد قوة ادليمي، جعل الحسن يحس أنه عاد للمربع الأول"الحسن يلهو وأوفقير يحكم"، ساعتها فعل خاصية رجل الدولة القوي، لتنتهي قصة ادليمي في حادث سير يطرح الكثير من التساؤلات؛ لكنه أعاد التوازن لموازين القوى، ويقول الحسن بعده لنجله -الملك الحالي- جملته المشهورة: (تركت لك قرنين من الاستقرار، فزدهما لأحفادي).
**
لقد آن الأوان أن نفهم الدرس، ونعلم أن السبب الكامن في تأخر المنجزات، والعجز عن الوفاء بالتعهدات، ليس ندرة الموارد، فموارد الدولة يتم تبذيرها على الطرقات، وعلى منصات وقاعات الحفلات، وفي المصائف الأوروبية، ونوادي القمار؛ إنما السبب الحقيقي في العجز الحاصل، هو تكاثر أسراب البغاث المستنسر التي استمدت القوة من الدولة واستغلتها لصالح الأهداف الشخصية، في غياب الراعي الحقيقي، الذي يعي أهمية ترويض الجوارح.
لا يوجد سقف معين لطموح الطامحين، وعلى رأي عادل إمام في مسرحية الزعيم: الحياة مراحل ولكل مرحلة طموحاتها ف "لآن أكون لصا، وغدا أكون زعيم عصابة، وبعد غد أكون رئيس جمهورية"..
فمن طبيعة الطموح أن يسعى بعد الحصول لأي رتبة للحصول على الرتبة التي تليها؛ فما بالك إذا كان الطريق مهيأ للقفز على الرتب والحصول على رتبة عليا دون المرور بما دونها من رتب..؟
وعلى الضفة الأخرى؛ لا يوجد حضيض معين لضعف طموح الزهاد، فمن طبيعة الزاهد الهروب إلى الوراء، لأن الأماكن الشاهقة تسبب له الاختناق، ولا غرابة أن تجد رئيسا زاهدا يطمح لأن يكون مجرد رئيس سابق -حصلت في موريتانيا في وقت سابق- فمن طبيعة الزاهد أن يخاف الأضواء، ويهرب إلى القاع، حتى يختفي في زحامه، فالزحام يطمئنه، والوحدة تقلقه، والقاع مزدحم، وسكان القمة قلة.
**
قبل فترة ناقشت أمورا سياسية مع أحد الواعين لما يجري داخل الدولة الحالية، والذين عايشوا عدة مراحل من الحكم في البلاد؛ فأكد لي على أهمية توثيق العلاقات بوزراء المرحلة الحالية، وقادة مؤسساتها السيادية، فسألته مستدرجا وما مدى أهمية العلاقة بالرئيس..؟
فرد بدون تحفظ: إن العلاقة بأعضاء الحكومة في المرحلة الحالية هي أهم شيئ، فالرئيس قد ترك لهم الحبل على الغارب، وأصبح كل منهم ملك لا يسأل عما يفعل؛ يمنح، ويعين، ويحرم، ويقطع الاقطاعات، يعمل لصالح نفسه فقط، دون وضع أي اعتبار للدولة، ولا لرئيسها، ولا بالمصلحة العامة للحكم..!
وأضاف: إذا استثنينا وزراء يعدون على أصابع اليد، كوزيري الداخلية والخارجية مثلا، فإن الكل في الهواء سواء، ملوك طوائف، وزعماء عصابات، لكل منهم إعلامه، وجمهوره، ومؤسساته، ونفوذه، وشعبيته؛ يسخر ما تحت يده من موادر، لتشييد صرحه وتعزيز بناء دولته الخاصة.
**
خلال أسابيع الأخيرة، زار الرئيس غزواني منشأة "ابني نعجي" بشكل مفاجئ، واتخذ قرارات حاسمة إثر الزيارة، وقبل يومين زار منشأة توزيع المركب الجامعي، وتكلم بنبرة مغايرة لأسلوبه التقليدي؛ وما يجب التأكيد عليه أن الخطوتان حتى وإن كانتا في الطريق الصحيح، فإنهما ليستا كافيتين.
ما يجب أن يتبعه الرئيس كسياسية روتينية، هو تقليم ظوافر الكواسر في معادلته القائمة، ورد الاعتبار لكرسي الرئاسة، الذي فقد الكثير من قوته مؤخرا، رغم القوانين التي تحمي سيده، وإحلال توازن عقلاني بين قوة الأفراد وقوة الدولة، ومحاسبة الانتهازين في فريقه، ويتخذها سياسية ثابتة لينذر بها قوما لدا.
للعبرة: يقول المثل الحساني: (فحلين ما ينهدو في دولة).