سيدي أحمد بن الأمير
في هذه المقالة الثالثة سأتحدث عن اتفاقيات إمارة الترارزة مع الفرنسيين، وقد تناولت حتى الآن في مقالة أولى ما يتعلق باتفاقيات الفرنسيين مع إمارات آدرار وإدوعيش وأولاد امبارك، وفي الثانية تناولت إمارة البراكنة وعلاقاتها مع الفرنسيين من خلال الوثائق الفرنسية المنشورة مؤخرا. وسأتابع استنطاق هذه الوثائق التي يبدو أنها قليل من كثير وأنها جزء من كل، وأن ما لم يفرج عنه منها أكثر مما ظهر، فما بين أيدينا ليس سوى بعض ما عند الفرنسيين من وثائق كثيرة حول بلادنا، وثائق وقعوها مع أمراء وزعماء موريتانيين، ونرجو أن يتم الكشف عن كل تلك النصوص الباقية، وأن ترى كلها النور، حتى نتمكن من وضع اليد على معلومات ستفيد دون شك المهتم بتاريخ وثقافة هذه البلاد. وأهيب بمناسبة نشر هذه النصوص بالسلطات الرسمية الموريتانية، سواء تعلق الأمر بوزارة الثقافة أو بوزارة الخارجية ممثلة في سفارتنا بباريس، أن تسعى عبر القنوات الرسمية إلى التواصل مع السلطات الفرنسية المعنية للحصول على نسخ من هذه النصوص وعلى غيرها مما لم يتم الإفراج عنه بعد.
إمارة الترازة.. إمارة البحر والنهر
تمتاز إمارة الترارزة عن غيرها من الإمارات الموريتانية بأنها منفتحة جغرافيا على المحيط الأطلسي وعلى نهر السنغال، وهو ما منحها موقعا جغرافيا يطل إطلالة استراتيجية على مياه طالما كانت محط أطماع الأمم الأوروبية منذ القرن الخامس عشر إلى أن بسطت فرنسا استعمارها على موريتانيا. وهذا الموقع الجغرافي المتميز جعل لإمارة الترارزة علاقات أكثر وأوسع مع القوى الأوروبية الباحثة عن أسواق في إفريقيا عبر المحيط الأطلسي وعبر نهر السنغال. ونفهم بسهولة أن هذه الوضعية المائية جعلت اتفاقيات الترارزة مع الفرنسيين مختلفة كما وكيفا عن غيرها، بحيث يكاد كل أمير من أمراء الترارزة تكون له اتفاقياته الخاصة وعلاقاته الأوروبية التي تستحق دراسة متأنية وفهما شاملا.
ومن المفيد أن نذكر أن هذه الوثائق التي بين أيدينا وغيرها من الوثائق الأوروبية توحي بجلاء أن أمراء الترارزة أدركوا بشكل مبكر ضرورة الاستفادة من التنافس الأوروبي على الشواطئ الموريتانية، وأن تلك الاستفادة تقتضي فتح قنوات اتصال مع الجميع، والتلويح لكل قوة بإمكانية الاستفادة من القوة المنافسة لها، وهو ما حسَّن بشكل مطرد من شروط الاتفاقيات التي أبرمها أمراء الترارزة مع الأوروبيين عموما ومع الفرنسيين بشكل أخص. ولا شك أن رسالة الأمير اعلي شنظورة للبروسيين والألمان بداية القرن الثامن عشر، وعرضه التحالف معهم ضد الفرنسيين، وكذلك رسالة حفيده اعلي الكوري بن أعمر بن اعلي شنظوره إلى الإنجليز بعيد الحروب النابوليونية، وعرضه مناصرتهم والوقوف معهم، تدل على إدراك الأميرين أهمية الاستفادة من التناقض الحاصل بين الأمم الأوروبية المتنافسة على إفريقيا في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر.
وهناك نقطة من المفيد أن نذكرها هنا وهي حرص بعض أمراء الترارزة الواضح على ضرورة اكتساب بعض وزرائهم وبعض محيطهم الاجتماعي المقرب جانبا من المهارات اللغوية الضرورية للتعامل مع الأوروبيين، وهو ما يمكن تسميته بتكوين التراجمة وتأهيلهم، ولم يقتصر الأمر على هذا المسعى التكويني التأهيلي لبعض التراجمة، بل إن بعض الأمراء أنفسهم حاول تعلم بعض اللغات الأوروبية هو نفسه. وعلى سبيل المثال نجد الأمير أعمر آگجيل بن هدِّ بن أحمد بن دمان يبعث ابن عمه أحمد بن إبراهيم بن منصور العگبي بن دمان إلى أوروبا لتعلم اللغة البروسية، فحل -كما تقول الوثائق الألمانية- في بلاط الملك فريدرش فيلهلم حاكم براندنبورغ، وتفرغ في روتردام منذ أغسطس 1703 لتعلم اللغة البروسية، في الوقت الذي كانت لإمارة الترارزة علاقات تجارية قوية مع هذه المملكة الأوروبية.
وكان أخيارهم بن المختار بن سيدي بن عبد الوهاب السباعي الدميسي، وزير أمراء الترارزة وسليل وزرائهم، قد ذهب إلى باريس سنة 1853 وهو ابن عشرين سنة لتعلم اللغة الفرنسية. وقضى سنة بفرنسا، وربما يكون بذلك أول طالب موريتاني يذهب إلى أوروبا، وذلك في عهد الامبراطور نابوليون الثالث. وقد حضر أخيارهم دخول نابليون الثالث باريس وهو قادم من حرب القرم بشرق أوروبا، وظل يتذكر تلك الاستعراضات العسكرية الضاربة في الفخامة كما يقول فريرجان في كتابه عن موريتانيا. وكما كان أخيارهم يتحدث اللغة الفرنسية بطلاقة فقد مر بعد إقامته بباريس بمدينة ليفربول بأنكلترا وأقام بها برهة، وفيها أخذ بعض مبادئ اللغة الإنجليزية. وكان أخيارهم مستشارا مقربا لسبعة من أمراء الترارزة، أربعة من أبناء محمد الحبيب وثلاثة من أحفاده وهم: الأمراء سيدي وأحمد سالم واعلي وأعمر سالم بنو محمد الحبيب. والأمراء محمد فال بن سيدي وأحمد سالم بن اعلي وأحمد سالم بن إبراهيم السالم. وكان أبوه المختار بن سيدي السباعي مستشارا مقربا من أعمر بن المختار ومن ابنه الأمير محمد الحبيب. وبهذا تكون هذه الأسرة السباعية قد ساهمت في تقوية إمارة الترارزة أثناء مفاوضاتها التجارية مع الفرنسيين، وجعل الجانب الموريتاني مدركا لجميع التفاصيل وليس بحاجة إلى مترجم أجنبي في الغالب يكون سنغاليا ينقل كلام الفرنسيين بالولفية ومن الولفية ينقله بعض الموريتانيين الحاضرين إلى الأمير بالحسانية، فتمر المعلومة المترجمة بأكثر من نظام لغوي وتفقد بذلك كثيرا من حقيقتها. ولذلك كان لهذه الأسرة السباعية، بحكم إتقان أفرادها للغات الأوروبية، الفضل في تجنب الكثير من عوائق التفاهم مع الأوروبيين، بل وتحسين فرص التفاوض، وما يعنيه ذلك من فوائد للجانب الموريتاني.
وعندما أصل إلى مقالتي القادمة عن اتفاقية قبيلة أولاد بالسباع مع الفرنسيين سوف أتحدث -إن شاء الله- عن سباعي آخر كان يتقن اللغة الفرنسية في النصف الأول من القرن التاسع عشر وهو محمد سالم بن محمد بن أعمر بن مِينَّحْنَ السباعي وهو من فخذ العبيدات من أولاد بالسباع، وكيف كان أحد إخوته الخمسة قد تمهر هو الآخر في اللغة الإنجليزية، وهما -أي ابنا محمد بن أعمر بن مِينَّحْنَ- من الموريتانيين القلائل إن لم نقل النوادر الذين يتقنون اللغتين الفرنسية والإنجليزية في النصف الأول من القرن التاسع عشر. وهذه ميزة جليلة وخصوصية نادرة لا نجدها إلا عند أفراد من أولاد بالسباع، وهو ما كان له دور هام -في نظري- في تذليل كثير من العقبات مع الأوربيين، وفي فهم طرق التعامل معهم. فإتقان بعض أفراد أسرة أهل مِينَّحْنَ وأهل عبد الوهاب السباعيتين للغات الأجنبية في النصف الأول من القرن التاسع عشر أمر سابق لأوانه في التاريخ الموريتاني، ويدل على وعي أصيل وفهم متحضر لوسائل العصر، فلولا إتقان هؤلاء للغات الأوروبية لما استفاد الموريتانيون من فرص تجارية هامة، ولما استوعبوا جانبا من رهانات التعامل مع الأوروبيين.
وتفيد نصوص المحامي والضابط والأديب الفرنسي آلفريد غيشون دو غرانبون (Alfred Guichon de Grandpont) حول الأمير التروزي المختار بن امحمد بن اعلي الكوري، الذي اعتقله الفرنسيون بعد مصرع الخلاسي والتجار جاك ماليفوار، ثم قتل في ديسمبر 1832م، أنه كان يتقن اللغة الفرنسية بطلاقة، وقد عاش طفولته بسان لويس (اندر) وربما يكون قد دخل مدارس الفرنسيين، وقد تعود هذا الأمير -وهو أمر نادر عند الموريتانيين في تلك الأيام- على اللباس المدني من سترة وربطة عنق.
وقد بلغت علاقة أمراء الترارزة بالفرنسيين درجة خاصة جعلت الرسام العالمي، صاحب لوحة طوافة قنديل البحر (Le Radeau de La Méduse) المعروضة بمتحف اللوفر في باريس، تيودور جيريكو (Théodore Géricault) يخصص لوحة جميلة لأمير الترارزة أعمر بن المختار وهو في مجلسه يتحدث مع أحد الناجين من السفينة الشهيرة لا ميدوز التي جنحت قبالة الشاطئ الموريتاني يوم 2 يوليو 1816، وهو عالم الطبيعيات الألماني أدولف كومير الذي كان على متن السفينة لا ميدوز، وبصحبته زميله الفرنسي جان ديني روجيري (Jean Denis ROGERY) المهندس الزراعي وعضو الجمعية الخيرية للرأس الأخضر. وسوف أخصص مقالة لهذه اللوحة وقصتها، وكيف استضاف حي أولاد السيد من أولاد أحمد بن دمان بزعامة محمد بن إبراهيم الغالي بن اعلي بن السيد بن هدِّ هذا الألماني وزميله الفرنسي وأكرموهما وأوصلوهما لأمير الترارزة أعمر بن المختار الذي أرسل معهما ابنه محمد الحبيب إلى سان لويس، ومحمد بن إبراهيم الغالي هذا جد أهل ببكر بن المعلوم الأسرة التروزية الشهيرة.
اتفاقيات إمارة الترارزة مع الفرنسيين.. علاقات متحولة لمضامين متنوعة
تشكل علاقات الفرنسيين بإمارة الترارزة تراكما لعلاقات مع أمم أوروبية أخرى وأخص هنا البرتغاليين والهولنديين والألمان والإنجليز، ومعلوم أن البرتغاليين لما رست سفنهم على الشاطئ الأطلسي نهاية القرن السابع عشر بقرب جِيوَه أطلقوا على ذلك المكان الذي وقفت فيه سفنهم اسم "بورتو دادي" (Porto d’Addi)، وسيصبح فيما بعد بورتانديك أي ميناء هدِّ، نسبة فيما يبدو لأمير الترارزة هدِّ بن أحمد بن دمان.
لا يمكنني في هذا المقال المحدود الوقوف على جميع الوثائق التي وقعها الفرنسيون مع هذه إمارة الترارزة بل سأكتفي بنماذج منها، وليُقَسْ ما لم يقل على ما قيل. من أقدم الوثائق الفرنسية المتعلقة بالترارزة، والمنشورة ضمن ما نشر مؤخرا، اتفاقية اعلي شنظورة مع الفرنسيين. وقد وقعها باسمه الزعيم التروزي بوعلي بن ببكر، والغالب على الظن أنه من زعماء قبيلة لعلب، بل قد يكون شيخهم في تلك الفترة؛ لعدة أسباب منها أن الوثيقة تصفه بزعيم مرسى بورتانديك، ومعلوم أن الشاطئ الأطلسي من فضاءات نفوذ قبيلة لعلب المعروفة، كما أن اسم ببكر كثير الورود في هذه القبيلة، ومن جهة أخرى فقد كان للأمير اعلي شنظورة علاقة خاصة ببني عمومته لعلب؛ إذ تذكر الرواية أن سدوم بن امحمد العلبي سافر معه نحو المغرب يريجون المدد والعدة والعتاد من السلطان مولاي إسماعيل في تلك الرحلة المشهورة عند الترارزة، وقد زودهم بالمحلة المشهورة. وتنص هذه الاتفاقية على وضع ميناء هدِّ "بوتانديك" تحت تصرف شركة الهند الفرنسية وعلى القطيعة بين الترارزة وبين الهولنديين، وعلى أن يسحب الترارزة جميع عناصرهم الموجودين مع الهولنديين في حوض آرغين. وعلى أن يمتنعوا من ممارسة تجارة العلك وغيره من البضائع مع غير الفرنسيين.
كما ستلتزم شركة الهند الفرنسية بإرسال سفنتين لميناء هدِّ في الفترة ما بين نوفمبر إلى يونيو من كل سنة. ومقابل كل ذك تشير الاتفاقية إلى الإكراميات المحددة عن كل سفينة والتي ستدفع لاعلي شنظورة ولزعيم لعلب بوعلي بن ببكر بوصفه سيد "بورتناديك"، هذا فضلا عن بيصة من نوع بفتاس أو من نوع سمبورس زرقاوين عن كل قنطار علك بيع للتجار الفرنسيين. كل هذا مع التزام الفرنسيين الصارم بعدم تقديم أي عون من السلاح كالمدافع والبنادق لأعداء الترارزة كما تقول الاتفاقية، وعدم توجيه السفن التجارية نحوهم، والمقصود حسب الوثيقة: أولاد يحيى بن عثمان وأولاد دليم والبراكنة.
وإذا كانت اتفاقية اعلي شنظورة تشير إلى تنسيق قوي بين الأمير وبين قبيلة لعلب فإن الاتفاقيات التي تلت ذلك، وخصوصا اتفاقية الأمير اعلي الكوري التي وقعها مع جان بابتيس ليونار دوران (Jean-Baptiste-Léonard Durand) في 10 مايو 1785م تعكس تنسيق الأمير مع المجموعات الدمانية كأهل عتام وأولاد ساسي وأولاد زنون وكذلك أهل عبله وأهل آگمتار وامحيمدات، فقد نصت الاتفاقية على استفادة كل هذه المجموعات من الإكرامات التي يدفعها الفرنسيون مقابل تأمين التجارة النهرية والتجارة الأطلسية.
إلا أننا سنلاحظ أن أسماء هذه المجموعات سوف تغيب عن الاتفاقيات التي وقعها الأمير أعمر بن المختار بداية القرن التاسع عشر، وسيقتصر ذكر المستفيدين على شخصيات بارزة من بطون أولاد أحمد بن دمان فقط، فقبل القرن التاسع عشر كانت هنالك مشاركة لأغلب قبائل الترارزة في الإشراف على هذه التجارة وفي العلاقات مع الأوروبيين كقبيلة لعلب وأولاد دمان وغيرهم، وسنلاحظ في وثائق القرن التاسع عشر حصر المستفيدين من الإكرامات في الأسر التي تشكل محيط الأمير الاجتماعي.
ومن أمثلة هذا النوع من الاتفاقيات تلك التي وقعها الأمير أعمر بن المختار مع لوكوبي في 7 يونيو 1821، ففيها نجد توقيعات شخصيات من أولاد السيد ومن أهل الشرقي بن هدي ومن أهل أعلي شنظوره ومن أهل أحمد ديَّ وغيرهم، وكلهم من بطون أولاد أحمد بن دمان. بل إن هنالك اتفاقية وقعها على حدة كل من امحمد شين بن سيدي المختار بن هدي وامحمد بن احميدهَ في 18 أغسطس 1842 كما سنرى في الملحقات، وهو ما يدل على نفوذ بعض الأسر التي باتت تشارك الأمير بعض صلاحياته الخاصة.
وفي عهد الأمير محمد الحبيب وأبنائه سيكون التوقيع على الاتفاقيات أكثر مركزية، وأشد ارتباطا بالأمير ومحيطه الأسري ووزرائه، ولا نجد في الغالب ذكرا للبطون الأخرى فضلا عن المجموعات التروزية الكبرى.
فالواضح إذا أن اتفاقيات إمارة الترارزة مع الفرنسيين كانت في بداياتها موثقة من طرف جميع المجموعات التروزية، ومع الزمن ظلت تتمركز في يد الأمير وعشيرته الأقربين ولهذا أسباب سنوضحها قريبا.
في اتفاقيات بداية القرن الثامن عشر كان هناك حضور واضح إلى جانب الأمير لقبيلة لعلب، وفي النصف الثاني من القرن الثامن عشر لاحظنا ذكرا مطردا لمجموعات تروزية مثل أولاد دمان وأهل عبله وأهل آگمتار..إلخ. وهذا النوع من الاتفاقيات يعكس الفترات التي تعرف فيها المجموعة التروزية انسجاما داخليا وسلما أهليا. ففي ذلك السياق الهادئ السلمي نجد ذكر هذه المجموعات حاضرا، ومشاركتها في صياغات الاتفاقيات منصوصا عليها، واستفاداتها من الإكراميات التي تمنح للقوى المؤمنة للعلاقات التجارية الفرنسية التروزية مذكورةً.
إلا أنه ومنذ ثمانينيات القرن الثامن عشر ستعرف العلاقات بين أولاد دمان وبني عمومتهم أولاد أحمد بن دمان تصدعا وعدم انسجام، وقد تحدثت عنه كتب التاريخ وذكرت حروبا وأياما ووقائع داخلية تسببت في انشقاق الصف التروزي الداخلي، خصوصا في نهاية عهد الأمير اعل الكوري وما بعدها، ومنذ ذلك التاريخ لا نجد ذكرا للمجموعة الدمانية في الاتفاقيات الفرنسية مع إمارة الترارزة.
ومع بدايات القرن التاسع عشر نجد في هذه الاتفاقيات ذكرا لأغلب شخصيات أولاد أحمد بن دمان الفاعلة والمؤثرة في المشهد السياسي والاجتماعي دون سواهم من المجموعة التروزية. فعلى سبيل المثال نجد ذكرا لشخصيات من أهل التونسي وأهل الشرقي بن هدِّ وأهل أحمد ديَّ وأهل اعلي شنظوره بيت الإمارة بطبيعة الحال. لكن هذه الفترة ستعرف تصدعا آخر داخل إمارة الترارزة، حين انقسمت المجموعة التروزية بين قسمة الأمير أعمر بن المختار الذي وطد الإمارة في ذرية المختار بن الشرقي بن اعلي شنظوره، وبين قسمة امحمد بن اعلي الكوري المطالب بعودة الإمارة إلى الفرع الأميري الأكبر من ذرية اعل شنظورة أي أهل أعمر بن اعلي. ومنذ ذلك التاريخ أيضا غابت هذه البطون عن الذكر في الاتفاقيات كما غاب قبلها ذكر القبائل التروزية كما وضحنا.
ولن نصل إلى ثلاثينيات القرن التاسع عشر حتى تكون الاتفاقيات يتم توقيعها من طرف الأمير نفسه أو إخوته أو أبنائه أو وزرائه، ولا نجد في الغالب في هذه الاتفاقيات مذكورا إلا الأمير محمد الحبيب أو المقربين منه كإخوته وأبنائه وبعض أخواله من أهل أعمر آگجيل وبعض وزرائه كالمختار بن سيدي بن عبد الوهاب السباعي أو ابنيْه: أخيارهم وإبراهيم.
ولعل هذا التغير في الموقعين على الاتفاقيات، وكونه في البداية كان عاما على المجموعات التروزية كلها ثم ظل ينحصر ويتمركز في يد الأمير ومحيطة القريب مرتبط بديناميات الصراع بين هذه المجموعات بل وداخل المجموعة الواحد، فكلما كانت المجموعة في حالة سلم وتناغم كلما اتسعت دائرة المذكورين في هذه الاتفاقيات، وكلما كان الصراع مشتدا والتنافس الداخلي حادا كلما اتجهت الاتفاقيات نحو الانحصار والتمركز في يد الأمير.
ولن نصل إلى نهايات القرن التاسع عشر حتي تعكس الاتفاقيات بين الفرنسيين والترارزة تحولا واضحا في العلاقات الفرنسية مع الموريتانيين عموما ومع إمارة الترارزة خصوصا، ويبدو من خلالها أن الفرنسيين عازمون على الحد من نفوذ الأمراء والتمهيد للنفوذ الفرنسي الذي سيشمل جميع البلاد. ومن أمثلة ذلك اتفاقية الأمير أحمد سالم بن اعلي بن محمد الحبيب مع الفرنسيين الموقعة في 8 أكتوبر 1891م والتي نشرت ضمن ما نشره الفرنسيون من وثائق.
خاتمة:
تشكل وثائق الفرنسيين الخاصة بإمارة الترارزة مادة غنية بالمعلومات ذات دلالات متشعبة، وقد ارتبطت هذه الوثائق بسياقات تاريخية واجتماعية هامة، وبتطورات داخل هذه الإمارة. ولا شك أن تحليل هذه الوثائق وتبيين علاقتها بتلك السياقات سيمنحنا رؤية أوضح لتطورات هذه الإمارة التاريخية والاجتماعية، وهو أمر مفيد بالنسبة للمهتمين، ومعين للمتخصصين.
وقد حاولت في هذه المقالة استنطاق بعض تلك الاتفاقيات التي نشرها الفرنسيون مؤخرا والتي تعكس علاقتهم بإمارة الترارزة، وهي اتفاقيات تتطلب بسطا في القول واتساعا في التناول قد لا يسمح به مقال متسرع كهذا. ولعل من يأتي بعدي من الشباب الباحثين يتناول هذه النصوص بتحليل أعمق واستنطاق أوسع، وبمنهجية أكثرَ نضجا وتحصيلا وأعمقَ تناولا وأقومَ قيلا.
انتهى