في تطور لافت، كشف التيار البعثي عن ما وصفه "أسباب فشل العمل الحزبي" في موريتانيا، وذلك من خلال موضوع تم نشره في نشرية "الدرب العربي" التي تصدر عن ما يسمى "حزب البعث" في القطر الموريتاني، حيث قالت: "ثمة تشوه تكويني في جميع الأحزاب السياسية الموريتانية أدى إليه خطأ فادح لم تسلم منه أية تشكيلة حزبية، وحتى لم تتفاوت فيه درجاتها. هذا التشوه يتمثل في تجميع خليط من الأفراد الذين ليس لهم أي رباط فكري سابق ولا حتى تقارب في الأفكار. والطامة الكبرى أن هذا الخليط يجد نفسه أمام "بيان للسياسة العامة" مركب من صياغة عائمة تجمع بين الاشتراكية واللبرالية على المستوى الاقتصادي، وتجمع في نظرتها للنظام السياسي بين منظور الفيلسوف الألماني – هيجل- للدولة ولكن بمضامين القبلية وثقافة " الفركان أي الحي البدوي".
وقد وقعت هذه الأحزاب في هذه الحفرة السياسية السحيقة بمكر من السلطة الحاكمة يومئذ، حين اضطرت تلك السلطة للانفتاح السياسي التعددي فقبلت بتأسيس الأحزاب على نحو مميع ورخو، دون ضوابط وشروط قوية بقصد إضعاف تلك التجمعات ببنائها على أسس هشة وفي غياب المضامين السياسية الفعلية ، بغرض التحكم فيها وتسهيل اختراقها بعناصر البوليس السياسي ، الذي تسلل أفراده إلى كل تشكيلة على حدة، ووصلوا إلى قمة بعض الأحزاب وكانوا صناع القرار فيه ، فتارة يوجهون خطه قبل المعارضة، وطورا تجاه المولاة ، وأحيانا يفجرونه إلى شراذم متنافرة ، تبعا لحاجة السلطة في كل مرحلة.. ولم يكن أحد من السياسيين ليطرح إشارة استفهام حول مدى التساهل الذي تبنته السلطة حيال شروط تأسيس الأحزاب في البلاد والجرائد والمنظمات غير الحكومية ؛ بل إن كثيرا من " المثقفين " هللوا إعجابا بذلك التساهل باعتباره مؤشرا على الإرادة الفعلية لدى قيادة البلاد في قبول حياة سياسية حزبية ومدنية متعددة . وبرغم تبدل الأنظمة السياسية وما استتبع ذلك من تعديلات دستورية ، إلا أنه لم يطرح أحد مسألة ضرورة أن تخضع عملية تأسيس الأحزاب ، وغيرها من بنى الديموقراطية، لمراجعة جملة المعايير والشروط القانونية الموضوعية حتى تكون في المستوى الذي يحول دون تميع الحياة السياسية وتتفيه السياسيين في أعين الشعب. وتلك رغبة تطلبها السلطة دائما، وتحرص عليها في الدول المتخلفة؛ لأنها تتساهل، في الظاهر في شروط قانونية موضوعية، في عملية خداع واضحة للسذج، بينما هي تتحكم في هذا التأسيس بمنح ما تسميه ب"التراخيص النهائية" المنافية للقانون كونها تابعة لمزاج أصحاب السلطة. فالسلطة تريد تجمعات قبلية بعناوين حزبية. كما أنها تتحكم في هذه الأحزاب بفعل تكوينها الضعيف في الأصل. أما الخطأ الثاني ، وهو الأخطر، فيقوم على تأسيس الأحزاب في غياب تام للبرامج وبهدف انتخابي صرف، لا يبتغي تنوير المجتمع ، ولا دور له في النضال من أجل الجماهير. وإنما تنحصر معركة وجودها في البحث عن ممثلين في البرلمان والبلديات، حتى ولو كانوا، في تكوينهم الفكري ونشاطهم العملي، على النقيض مما ترفعه تلك الأحزاب من أفكار في العلن. من هنا، غابت لغة النضال وغاب الانحياز لمعاناة الفقراء ؛ بل الأفدح أنه غابت القسمات والسمات المميزة للأحزاب. فما عاد فيه يمين ولا يسار ، ولا قوميون ولا رجعيون ، ولا اشتراكيون ولا ليبراليون. إنه خليط بين الطين والطحين، يتحالف ويتخالف ، يتقارب ويتباعد على أساس الانتفاع من السلطة أو إسقاط السلطة.. وهكذا، دخلت النخب السياسية والثقافية في موت سريري، ودخلت أحزابها في مرحلة التحلل والتلاشي لصالح القبائل الحزبية..