أحمدو ولد الشيخ ولد أحمدو
كنت قد ضربت صفحًا عن الكتابة فى القضايا التى تعالج الشّأن العام وسياسات البلد..نظرًا لِعدم التّجاوب مع الأفكار التى نطرحها عبر مقالات مسطورة فى وسائل التّواصل والصّحافة الوطنية..زِدْ على ذلك العُزوف المُشين عن عادة القراءة ،إِذْ أنّه سلوك لايبعث على الأمل نحو التّغيير المنشود وحيث أنّ هذا الشّرود عن المطالعة يساهم فى تَغْيِيب الرأي العام ويُحَيِّدُ المواطن البسيط عن دائرة التّأثير فى القرارات المصيرية!!!!!!
على كل حال، غَالَبْتُ النّفس ومسكت الحِبْر وعَصَرْت ذاكرتي وبَحرت مع أفكاري..كَيْ أَجِد مُسَوِغًا واحدًا للإختلالات التى نعيشها منذ الإستقلال الى حدّ كتابة هذه السّطور..والحلول والتّوصيات اللازمة للوصول الى دولة حديثة تمتلك بنية تحتية لائقة ومؤسسات تحافظ على خصوصيتها الثّقافية والإجتماعية كَبَاقي الشّعوب من حولنا!!!
هل يلتصق الفساد المستشرى بإنتكاسة الأخلاق فِينَا؟ ما مدى إرتباط الأخلاق بالتّغيير نحو الأفضل سياسيا وإقتصاديا وإجتماعيا؟ هل بالرّجوع الى الفضيلة الخُلقية نَنْتشل الوطن من قِيعان التّيه والفوضى والتّخلف والضّياع والتّدهور الحاصل فى جميع المستويات؟
لا شك أنّ المنظومةالأخلاقية فى مجتمعنا تعاني إختلالات وهذا ما حَفَّزَنِي على الإدلاء بِرَأْيٍ حول بعض مظاهر تداعيات البعد الأخلاقي وكيف نُؤصّل الفضيلة الأخلاقية فى كل المبادرات والمقاربات التَنموية التى تهدف الى حلحلة المشاكل المطروحة على الصّعيد الوطني.!!
هل تَغْيِيب رأس المال البشري-نعني المهارات والقدرات والفضيلة الأخلاقية -كان وراء تَخَبُطِنا وفشلنا؟
إنّ الأخلاق ليست من الصّفات الحميدة التى يتميز بها النّوع البشري فحسب، بل هي قيمة معنوية وروحية تُمايِزُ النّاس عن بعضهم البعض ...إنّها بَلْسم للنفس والرّوح وترتقي بالأفراد والشّعوب الى مراتب المجد والسؤدد والرُقي الحضاري ..كما أنّ الأخلاق الفاضلة صمام أمان للحضارات ،فكم من الأمم تقاعست بعد إفلاسها الأخلاقي ولم تَفُت تلك الرُؤية الثّاقبة عن أحمد شوقي حيث قال:
إنّما الأمم الأخلاق مابقيت
فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا.
إنّ الأخلاق سمات سلوكية وفكرية تُوَجهنا لِفعل ماهو صحيح ،وقد رأى أفلاطون أنّها وسيلة الإنسان للوصول الى السعادة والخير ،كما رأى سقراط أنّ التّحلى بالأخلاق أولى من المال والقوة والمتعة وأشياء أخرى كثيرة ،فى حين عرّفها أرسطو أنّها التّصرف بطريقة صحيحة وقِيام الإنسان بما فيه خير له..وفى العصر الحديث أعتبر جون لوك (فيلسوف إنجليزي) أنّ أسمى مراتب الخير تكمن فى سعي الإنسان لتحقيق الفضيلة الأخلاقية ..حتى أنّ الماركسية تعتبر أنّ الأخلاق تملك القدرة على تفريق البشر أو توحيدهم ..ولنا المثل الأعلى فى رسول الله (إنّما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق).
وبمنظور عام فإن تأثير الأخلاق فى حياة الأمم حقيقة مشهودة حيث أنّ علماء الإجتماع والفلسفة أجمعوا على أنّ البعد المادي للحضارة ليس تِرْياقًا لِدَيْمومتها إذا لم يكن مصحوبا بأبعاد روحية وأخلاقية ،كما نشهد ونلاحظ حاليا فى الحضارة الإنسانية القائمة حيث الحروب والإقتتال فى كل بقاع الأرض والأقوياء يَعْتاشون على حساب الضعفاء ....والشركات وأصحاب الأموال يتدافعون وراء الأرباح فى حين أنّ الجِياع والفقراء يزدادون وبالكاد تغيب الفضيلة والرحمة وينعدم مبدأ الأُخوّة الإنسانية والمواساة والمؤازرة والتّكافل ...ولم تعد أعمال البِرّ والخير سلوكا شائعًا عند أغلب الفئات وتفشت الرّذيلة وإِدمان المخدرات فى صفوف الشباب ..ناهيك عن تراجع مستوى التّدين وهذا ما يُفسر إنتكاسة الأخلاق فى بعض المجتمعات وفينا......
إنّ الأخلاق هي الجوهر والمدار ولا مناص من تأصيلها فى حياتنا وفى سلوكنا ،فى البيت والمكتب والمدرسة والشّارع وبذلك وحده نصل درجة الآدمية الحقّة ونرتقي الى الأعالي والأمجاد. قال حافظ إبراهيم :
العلم إن لم تكتنفه شمائل
تعليه كان مطية الإخفاق
لا تحسبن العلم ينفع وحده
ما لم يُتَوّج ربه بخلاق
إنّ الأخلاق تعطى للأشياء قيمتها ولن نسمو الا بالعودة الى الصّدق والتّواضع والعفو والإحسان والتضحية والتسّماح والوفاء بالعهد وأن تشيع بيننا ثقافة الحريةوالعدل والمساواة...وأن تَحْيَ الضّمائر فى سلوك الحُكام والمحكومين .
هناك قصة حقيقية حصلت مع حاكم فى مقاطعة مقطع لحجار ،أثناء رحلة صيد مع بعض الرّفاق حيث طلب من حارسه أن يُناوله البندقية لِيقتل غرابًا جاثما على شجرة ،لِيؤكد السّيد الحاكم بذلك قدرته فى الرّماية وإصابة الهدف ،وكان من بين الحاضرين مسؤول الحماية البيئية الذى ابْتَدَر قائلا بصوت مرتفع :السّيد الحاكم أذا أطلقتم رصاصة نحو هذا الطائر سأمزق أحشاءك بأخرى ،كيف تتلهى بروح طائر بريء لم يعتد على حرث ولا على نسل ،يعيش طليقًا حرًا فى سماء خالقه وعلى أرض مسلمة يجب أن تُصان فيها الدّماء..والحمد لله نجا الغراب
ألا يعلم هذا الحاكم أن الغراب هو من أول من علّم الإنسان كيف يواري سوءة أخيه وأن قوله تعالى (مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا )جاءت فى سياقٍ بعد ذكر القصة
نريد من أمثال هذا الحاكم ،فاقدي المسؤولية والرحمة والأخلاق ..أن يَحِيدوا عن المناصب والإدارة .
إنّنا نريد من المسؤول أن يستحضر الحس الوطني ومستقبل الأجيال ويستشعر بخطورة الأمانة ، أثناء تأدية المهام وإبرام الصفقات وإنشاء الطرق والمرافق العامة .
نريد من المعلم أن يَعْلَم أنّ من بين التّلاميذ من سيكون رئيسا أو وزيرًا أوطببيا سَيُداوى جراح أحفاده ،،،نريد من التّاجر أن يُطفئ نار الجشع وأن يبيع سمحا وأن يشتري سمحا،،،نريد من الطبيب أن يعامل مرضاه وكأنهم فلذات رحم لاتجوز المتاجرة بأرواحهم وأجسادهم..نريد من كل مواطن أن يخالق ويعاشر أبناء وطنه بخلق حسن ويحب لهم مايجب لنفسه.....نريد من المهندس والميكانيكي والفني والسائق والجزار وأصحاب المهن كلها أن يتحلوا بخلق الفضيلة والتّضحية من أجل هذا الوطن الجريح ،الجاثم فى نفق من المعاناة والتخلف والفساد.....إنّنا نريد من الصّياد فى البرّ والبحر أن يستحضر أنّ تلك الأسماك والطيور والغزلان والحيوانات البرية والبحرية تجمعنا بهم صلة قربى فى البيت البيئى المشترك ولا يجوز الإستنزاف والقتل الجائر وأن يتحلوا بصفة الرحمة والشفقة أثناء سعيهم للكسب وطلب الأرزاق وسدّ غائلة الجوع.....نريد من المواطن هناك فى الأدغال والغابات أن لا يعبث بقطع الأشجار وأن لا يتسبب فى الحرائق وأن يستنبت لنا الشّتلات والغِراس...نريد من الناخب والمنتخب ولجنة الإنتخابات أن يتعاملوا مع الإقتراع كأمانة فى أعناقهم وقد تكون حسرة عليهم يوم القيامة.....نريد من القاضي أثناء البتّ فى القضايا والشكايات ،أن يتذكر قوله تعالى (يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها ).ونريد من الشّهود والمحامين فى المحاكم والمرافعات ،أن يتذكروا قوله تعالى (هذا يوم ينفع الصّادقين صدقهم)..نريد من أصحاب الدّكاكين والمنازل والجيران أن لا يرموا الفضلات فى الشّوارع وأن يتخلقوا بخلق إماطة الأذى عن الطّريق....نريد من الشرطة أثناء تفريق المظاهرات أن تقتصد فى إطلاق مسيلات الدّموع وأن لا تقتل الأمل فى نفوس المتظاهرين ..كما نطلب من المنتفضين أن لا يستبيحوا أعراض النّاس وممتلكاتهم ومرافقهم العامة ...كما نريد من أصحاب المروءة والشهامة والفضيلة أن يشقوا طريقهم نحو إدارة البلد ،الذى يزخر بالثّروات وتَتوالى عليه الحكومات ولم يذق بعد طعمًا للثّمرات ويكتوى بالحسرات وقائمة طويلة من المعاناة وخيبات الأمل !!!!!!
وفى الختام يبقى عزاؤنا الوحيد أنّ قبطان السفينة (السّيد الرئيس) ذو بقية أخلاق وشيء من التّقوى بشهادة مُقربين.