عبدوتي عالي محمد أحمد ـ نائب رئيس حزب تواصل
تثور حفيظة المواطنين كل سنة وهم يجلدون بسيل من المقالات التي تتحدث عن انجازات "افتراضية"، والتي لا تعدو -في الحقيقة- كونها "ماكينة صرف هائلة" يقف قبالتها "لصوص محترفون" راكموا خبرة عريقة تشهد عليها كل أنظمة الخراب المتعاقبة، فبدلا من التخلص من المياه الراكدة للمحسوبية والفساد، وتعقيم بؤر الهدر والنهب، يتم إخراج "كهنة" الأنظمة السابقة من مضاجعهم، في إطار المحافظة على التقاليد المقدسة للتزلف "مسبق الدفع"، وإعادة تدوير "السموم"، مما ولد لدى المواطنين استنتاجات كئيبة وموهنة للعزائم بعد أمل مكذوب وحلم زائف بالتغيير.
لقد رضي هذا لنظام الانحياز "للأقوياء" خوفا منهم، أو طمعا في دعمهم الانتخابي، وبدلا من إجبار المستثمرين ورجال الأعمال على سدادا الأموال المستحقة عليهم من ضرائب وجمارك و تأمينات، ومحاربة كافة أشكال التهرب، وبدلا من إعادة النظر في الاتفاقيات المجحفة والتي تمت في ظروف غامضة لعدد لا يحصى من شركات "استنزاف الموارد" الأجنبية والوطنية، وبدلا من ضبط "احتكار" بارونات الاستيراد والضغط عليهم ليساهموا في تحمل تبعات الأزمة، وبدلا من وقف نزيف النهب من موارد الخزينة العمومية و استعادة الأموال المنهوبة، وبدلا من تعبئة التمويلات الخارجية وتسييرها بحصافة لمواجهة الوضع، بدلا من كل ذلك، يطلب من الفقراء سد عجز الميزانية وتسديد ديون الدولة من خلال فرض الضرائب على الوقود، والتي يتم تحميلها على المستهلك النهائي أي على المواطن الفقير عبر رفع أسعار السلع.
من الطبيعي إذن أن يشتكي المواطنون بمرارة من الارتفاع الشامل والمذهل للأسعار بصورة تفوق بمراحل قوتهم الشرائية، ولا جدال في أن الاقتصاد الموريتاني كان دائما معرضا لتأثير الصدمات الخارجية، ولا خلاف في أن مهمة الحكومات هي أن توفر مظلة لحماية مواطنيها أثناء الأزمات، وان من أوضح مظاهر عجز وفشل الحكومات تحميل الطبقات الفقيرة والمتوسطة نتائج خياراتها السيئة، وتسييرها المرتبك، عبر التحجج بالأزمات الدولية.
تتراوح مقالات "التثمين" بين "التبسيط" المفرط و"التزلف" المفرط، ولكنها تركز جميعا على جانب "الصرف" حتى لا تذكر القارئ بالمداخيل الاستثنائية التي توفرت للنظام خلال هذه السنوات، بدأ بأطنان الذهب الأهلي التي لم تكلف الدولة سوى طباعة الأوراق النقدية، ومرورا بمداخيل "كوفيد" التي لم يسبق لها مثيل في تاريخ البلد، فضلا عن الاستمرار المطرد لارتفاع أسعار الصادرات الموريتانية من المعادن والأسماك وغيرها، وانتهاء بالدعم "السخي" من طرف "الكفيل" الإماراتي والسعودي، وغيرهما من المانحين العرب والأوربيين الذين أدى إلغاؤهم آو جدولتهم للديون إلى تقليل الأعباء المترتبة على سداد الديون وفوائدها. .
من ناحية أخرى تتحاشى مقالات "التثمين" عنصر "المقارنة" لأنها تقتل "الدعاية المزيفة"، فإذا قارنا مكانيا بالدول المجاورة ستتراءى أمامنا "القطارات السريعة" في مقابل "جسر الحي الساكن"، وإذا قارنا زمنيا بالمأمورية السابقة ستواجهنا "المدن" و"المطارات" و"الموانئ" و "المستشفيات" و"الجامعات" وهو ما لا قبل لنا به، رغم أن السيولة التي حصلت عليها الدولة في هذه السنوات الثلاث أكثر من كل مداخيل الدولة في كامل المأمورية السابقة.
لا يخفي على أحد أن الموريتانيين وتحت ضغط الواقع الصعب والأوضاع المتدهورة حد المأساة، يرفعون عقيرتهم، وبشكل يومي، محتجين -في جهات موريتانيا الأربع- كلما سنحت فرصة، بل ويخرجون عن طورهم "صارخين"، وتثور حفيظتهم "متظاهرين"، بعد أن طحنهم الفقر والحرمان احتجاجا على تدهور الخدمات، و البنى التحتية، وسوء الإدارة، وغياب الأمن، وقد تحملوا في سبيل ذلك الكثير من الاعتداء على حرياتهم الفردية والجماعية، في جو من "تصامم" الحكومة عن المطالب و"مباركتها" للقمع، بعد أن أثبتت حكومات "الإنصاف" أنها "أسوأ موزع"، ففي الوقت الذي تمتلك فيه الحكومة اقتصادا متخما بالموارد، تختفي فيه المليارات يوميا، وتوزع فيه الصفقات دون رقيب، تتقدم الحكومة لتفتخر بتوزيع 16000 أوقية لبعض الأسر المسحوقة كل 3 أشهر، في الوقت الذي يتجاوز فيه سعر ليتر الزيت 1000 أوقية..
لقد توقف الكثيرون من "المتفائلين" عن "مطاردة السراب"، بعد ما شاهدوه من انتقال "النظام" من إدعاء محاربة الفساد إلى "تقنينه" مع التعديل الجديد لمدونة الصفقات، في تشجيع مريب للتوسع المخيف "للثقب الأسود" لصفقات التراضي التي ابتلعت 35% من القيمة الإجمالية لمجموع صفقات الدولة خلال ما مضى من المأمورية.
إن حماية "بارونات الفساد"، والتستر عليهم، ليست "تقليعة جديدة"، بل هي منهج متبع ومنذ البداية لهذا النظام، ففي أيامه الأولى، حدث "شيء من الإحباط" لدى أنصاره من المواطنين "الطيبين"، الذين حلموا بالتخلص من "فضلات" الماضي و"سخافاته"، بعد أن نشرت تقارير محكمة الحسابات، دون إن يرتب النظام عليها شيئا، ولكن "الطيبين" استعادوا الفرحة بتشكيل لجنة التحقيق البرلمانية التي استعانت بمكاتب خبرة متخصصة، وتوقعوا قرارات "مزلزلة" بعد نشر نتائجها التي أشارت بأصابع الاتهام إلى ما يزيد على 300 شخصية متهمة بالفساد (رغم أنها عالجت 7 ملفات فقط)، وبعد تسليم التقرير، وبعد مسار طويل من التراخى والانتقائية كانت النتيجة المذهلة التي لم يتوقعها أحد هي : "توجيه الاتهام ل13 فقط" وهي شهادة ب"انتقائية" هذا النظام، و شهادة "بنقاء" تسيير ومسيري العشرية السابقة لم يحلم بها أقرب المقربين منه. ولا يزال "هواة المسرح الشعبي" ينتظرون أداء "المخرج" في المعركة الأخيرة "ديكت Fin" مع الرئيس السابق.
حاول بعض أنصار النظام إخفاء "آثار الجريمة" من خلال مشاركة المعارضة في "مسرحية" الحوار الوطني، ولكن "أداءهم" على خشبة المسرح " لم يعجب "كهنة آمون"، فقدموا إلى ما عملته اللجنة التحضيرية للحوار من عمل وجعلوه "هباء منثورا"، في احتقار كامل لكل من راهنوا على الحوار في "الأغلبية والمعارضة"، وتحد صارخ لكل عمل يمكن أن يرفع معنويات الجماهير، أو يحي الأمل، أو يبلور حلولا "متشاورا عليها" لمشاكلهم.
لا خلاف في أن ظروف المواطن هي اليوم أسوأ بكثير مما كنت عليه قبل ثلاث سنوات، ولاشك أن حياة الطبقة الوسطى مجدبة، وشاحبة، وترتفع قليلا عن مستوى حياة "المتسول"، ولاشك أن ما يقي من المأمورية مغلف بغيوم الشك والريبة، وأن ضجيج جوقة الإعلام الحكومي لتضليل الجماهير تغطي عليها الزفرات المتشائمة للفقراء والمسحوقين، ولن تنفع المحاولات "البدائية" لإسكات المعارضة، ولا الحملات "الصليبية" الموجهة ضدها.
يراهن النظام على أن "قشرة العادة صلبة"، ولكن التاريخ يعلمنا أن الشعوب تبدأ في تعاملها مع الأنظمة الفاشلة ب"الأمل" ثم "الصمت" ثم "الهمسات" ثم "الصراخ" ومن بعد ذلك يأتي "الطوفان" فاعتبروا ...