محمد الأمين ولد الفاضل
لم تجد لغاتنا الوطنية من الاهتمام مثل ما وجدت خلال السنوات الثلاث الأخيرة، تلك حقيقة لا تجد من يتوقف عندها، ومن مظاهر ذلك الاهتمام يمكننا أن نذكر:
1 ـ لقد أصبح بإمكان المواطن الموريتاني أن يسمع كل ما يدور من مداولات داخل برلمانه بلغته الأم، وهذا شيء في غاية الأهمية، وقد تحقق ذلك بفضل تعديل المادة 61 من النظام الداخلي للجمعية الوطنية الذي فرض ترجمة مداولات البرلمان إلى كل اللغات الوطنية، وكذلك بفضل قناة البرلمانية التي أصبحت تبث كل ما يجري في البرلمان من نقاش بكل لغاتنا الوطنية. من قبل تجاوز هذه النقطة لابد من لفت الانتباه إلى أن بعض النواب ما زال وحتى اليوم يرفض الحديث بلغته الأم، ويصر على الحديث باللغة الفرنسية، وذلك على الرغم من علمه بأن مداخلته بالفرنسية لن تترجم، وأنها لو كانت بلغته الأم لترجمت إلى كل لغاتنا، ولبثت في قناة البرلمانية بكل تلك اللغات؛
2ـ إطلاق وحدة تكوين لتدريس اللغات الوطنية لشعبتي القضاء والإدارة في المدرسة الوطنية للإدارة والصحافة والقضاء؛
3 ـ المصادقة على القانون التوجيهي للنظام التربوي، والذي ستصبح بموجبه لغاتنا الوطنية تدرس في مدارسنا ولكل أطفالنا، وأظن أنه لا يخفى على أحد أهمية ذلك، ولا يخفى عليه كذلك حجم كلفة ذلك، سواء تعلق الأمر بالكلفة المادية (إعداد برامج وتوفير المعلمين القادرين على التعليم بلغاتنا الوطنية)، وسواء تعلق بالكلفة التربوية حيث أن كل تلميذ سيلزم بتعلم لغة وطنية واحدة على الأقل، بالإضافة إلى تعلم اللغة العربية والفرنسية والانجليزية.
هذا هو ما تحقق لصالح لغاتنا الوطنية خلال السنوات الثلاث الماضية، وهذا ليس بالشيء القليل، فلماذا يتحرك الآن ـ والآن بالذات ـ بعض الناطقين بهذه اللغات للتشويش على ما تحقق؟
إن الإجابة على هذا السؤال تفرض علينا أن نُذكِّرَ بأن تطوير لغاتنا الوطنية، وإعطاءها مساحة أوسع في مجال التعليم والإدارة والإعلام سيكون ـ بطبيعة الحال ـ على حساب المساحة الممنوحة بغير وجه حق للغة الفرنسية في التعليم والإدارة. كما أن تفعيل ترسيم اللغة العربية سيكون هو أيضا على حساب المساحة الممنوحة بغير وجه حق للغة الفرنسية في الإدارة والتعليم. لذا فمن الطبيعي جدا أن يتحرك ـ وبقوة ـ المدافعون عن اللغة الفرنسية والساعون لبقائها مسيطرة في التعليم والإدارة في هذه البلاد، كلما اتخذت الحكومة خطوة لصالح لغتنا الرسمية أو لصالح لغاتنا الوطنية، وذلك لأنهم يدركون ـ تمام الإدراك ـ بأن أي خطوة سيتم اتخاذها لصالح لغتنا الرسمية أو لصالح لغاتنا الوطنية سيكون على حساب المساحة الكبيرة التي تغتصبها اللغة الفرنسية في التعليم والإدارة دون وجه حق، منذ الاستقلال وحتى يوم الناس هذا. هذه هي الحقيقة التي يتجاهلها الكل, وذلك على الرغم من أنها تفسر كل شيء، وما بقى بعد هذه الحقيقة هو مجرد تفاصيل صغيرة.
وحتى لا يبقى هذا الكلام مجرد كلام، فإليكم بعض الأمثلة التي تؤكد أن تحرك البعض بحجة الانتصار للغاتنا الوطنية، إنما هو في حقيقته مجرد تحرك من أجل إبقاء اللغة الفرنسية مسيطرة في هذه البلاد.
لنعد قليلا إلى بعض الأحداث ذات الدلالة التي صاحبت تعديل المادة 61 من النظام الداخلي للجمعية الوطنية، والذي أصبحت بموجبه الجمعية الوطنية ملزمة بترجمة كل مداولات البرلمان إلى كل اللغات الوطنية.
بعد هذا التعديل وما أثار من نقاش سارعت إذاعة فرنسا الدولية إلى بث بعض الأكاذيب، في محاولة منها لإرباك هذا التعديل، ومن أكاذيبها ما جاء في إحدى نشراتها الإخبارية، وعلى لسان مراسلها في نواكشوط الصحفي "سالم مجبور سالم" من أن اللغة الفرنسية ـ حسب الدستور الموريتاني ـ هي لغة عمل في موريتانيا!!!
هكذا وبكل بساطة، جعلت إذاعة فرنسا الدولية من اللغة الفرنسية لغة عمل في موريتانيا، وبحسب الدستور الموريتاني!!
كما جاء أيضا في نشرتها الإخبارية أن رئيس الجمعية الوطنية حَرَّم الحديث باللغة الفرنسية داخل البرلمان الموريتاني، وهذا غير صحيح، فالحديث بالفرنسية لم يًحَرم في أي يوم من الأيام داخل الجمعية الوطنية، وبإمكان أي نائب أن يتحدث باللغة الفرنسية، وما زال بعض النواب، وإلى يومنا هذا ، يرفض الحديث بلغته الأم ويتحدث باللغة الفرنسية. كل ما حدث هو أن المداخلات بالفرنسية لم تعد تترجم إلى اللغات الوطنية. هذا هو كل ما حدث، مع أن ما كان يجب أن يحدث هو أن يتم تحريم الحديث باللغة الفرنسية داخل البرلمان الموريتاني احتراما للسيادة، وتقليدا لبرلمانات العالم التي يمنع فيها ـ وبشكل حازم ـ الحديث بأي لغة أجنبية.
وتفاعلا مع تلك الأكاذيب سارعت بعض الجهات والأحزاب المحسوبة على المعارضة إلى إصدار بيانات منددة بالخطوة، ومدحت حركة إيرا في بيانها المعنون :" ﻣﻮﺭﻳﺘﺎﻧﻴﺎ : ﺍﻟﻄﺮﻳﻖ ﺍﻟﻤﻨﺤﺮﻑ ﻟﻠﺘﻤﻴﻴﺰ" اللغة الفرنسية، وهاجمت اللغة العربية.
وتزامنا مع ذلك كله تم تداول أخبار في عدد من المواقع الوطنية مفادها أن السفير الفرنسي في نواكشوط استدعى بعض النواب وحثهم على التمسك بالمطالبة بتوفير ترجمة مداولات البرلمان من وإلى اللغة الفرنسية.
بعد ذلك بفترة، وفي نهاية العام الماضي تم تشكيل لجنة برلمانية عُهد إليها بمراجعة النظام الداخلي للجمعية الوطنية، وتكونت هذه اللجنة من 5 نواب ( ثلاثة نواب من حزب الإنصاف، ونائب من تواصل، ونائب من حزب الاتحاد من أجل الديمقراطية والتقدم). تقدمت هذه اللجنة بمقترح يتضمن تعديلا جديدا على المادة 61 تصبح بموجبه الجمعية الوطنية ملزمة من جديد بالترجمة من وإلى اللغة الفرنسية، ولكن وقوف رئيس الجمعية الوطنية وبقوة ضد هذا التعديل أسقطه من قبل أن يتم عرضه على النواب.
ولو أن هذا التعديل الجديد تم اعتماده لشكل ذلك انتكاسة كبيرة في مسار تطوير لغاتنا الوطنية، ذلك أن بعض النواب الناطقين بغير اللغة العربية ما زال ـ وحتى اليوم ـ يتحدث باللغة الفرنسية مع علمه أن حديثه لن يترجم، فكيف سيكون الحال لو عدنا إلى ترجمة المداخلات باللغة الفرنسية؟ حينها لن يتحدث من النواب بلغاتنا الوطنية إلا قلة قليلة جدا، هذا إن وجدت تلك اللغات من يتحدث بها أصلا.
هكذا تم إفشال محاولة التعديل الجديد على المادة 61، والذي كان سيشكل ـ إن تم تمريره ـ انتكاسة كبيرة لمكسب هام تحقق لصالح لغاتنا الوطنية.
وهنا يطرح السؤال التالي نفسه: كيف سنطور لغاتنا الوطنية وبعض النواب الناطقين بها يرفضون التحدث بها مع توفر الترجمة الفورية؟
إن نفس الأساليب التي تم استخدامها لإفشال الخطوة المهمة التي تم اتخاذها في الجمعية الوطنية، هي نفسها التي يتم استخدامها اليوم ضد القانون التوجيهي للنظام التربوي، والذي أعطى للغات الوطنية مكانة معتبرة في التعليم، لم تحصل عليه من قبل.
إن ما يجري حاليا من تحركات واحتجاجات للمطالبة بترسيم اللغات الوطنية، ومساواة هذه اللغات باللغة العربية، ليس من أجل اللغات الوطنية، وإنما هو من أجل ضمان بقاء اللغة الفرنسية مسيطرة في التعليم والإدارة. هذه هي الحقيقة التي لا تجد من يتحدث عنها..
إن رفع مطالب مستحيلة التحقق، أو غير عملية، في مثل هذا الوقت بالذات لا يمكن تفسيره إلا أنه محاولة للإرباك وللتشويش على القانون التوجيهي الذي أعطى للغاتنا الوطنية مكانة معتبرة، فبأي منطق يُطالب البعض بمساواة كاملة بين اللغة العربية ولغاتنا الوطنية؟
إن اللغة العربية هي لغة عالمية تحتل الآن الرتبة الرابعة عالميا، والرتبة الثانية إفريقيا (اللغة الفرنسية بالمناسبة هي التاسعة عالميا والرابعة إفريقيا)، وهي ـ أي اللغة العربية ـ لغة أم لأغلبية سكان هذه البلاد، وهي لغة القرآن ولغة العبادة للأمة الإسلامية جمعاء، ولذا فليس من المنطقي أن نطلب بمساواتها مساواة كاملة مع لغاتنا الوطنية، وحتى وإن كنا نعتز تمام الاعتزاز بلغاتنا الوطنية، إلا أننا في المقابل ندرك ـ تمام الإدراك ـ بأنها لغات محلية أو إقليمية، وأنها ما تزال تحتاج لجهد كبير حتى يكون من الممكن كتابتها وقراءتها وإعداد مناهج دراسية خاصة بها، فهي لا تمتلك أبجدية خاصة بها، ولذا فإن الشعار المطالب بمساواة كاملة لها مع اللغة العربية، لا يمكن أن يصنف بالشعار الجدي أو الوجيه، وإنما هو شعار لا يُراد منه إلا الإرباك والتشويش على تنفيذ ما جاء في القانون التوجيهي للنظام التربوي، وذلك حتى تبقى اللغة الفرنسية مسيطرة على التعليم، وعلى حساب لغتنا الرسمية ولغاتنا الوطنية.
الغريب في الأمر أن من يُطالب اليوم بالمساواة الكاملة بين اللغة العربية ولغاتنا الوطنية ما زال يصر على كتابة شعاراته ورفع مطالبه باللغة الفرنسية. والغريب أكثر أننا لم نسمعه يوما واحدا يُطالب خلال العقود الست الماضية بمساواة كاملة بين اللغات الوطنية واللغة الفرنسية.
يمكنني أن أجزم بأنه لو كان القانون التوجيهي للنظام التربوي قد نص على أن اللغة الفرنسية ستصبح هي لغة التدريس في كل مراحل التعليم لما سمعتم اليوم بأي حراك مطالب بترسيم لغاتنا الوطنية.
ثم ما معنى المطالبة بترسيم لغاتنا الوطنية؟ وهل من المعقول أن يكون لبلد صغير كبلدنا لا يتجاوز عدد سكانه أربعة ملايين نسمة أربعة لغات رسمية؟
وإذا كان من يرفع اليوم شعار المطالبة بترسيم اللغات الوطنية جادا في مطلبه، فلماذا لا يسلك الطريق الذي يمكن أن يوصل إلى ذلك، وهو طريق تعديل المادة السادسة من الدستور الموريتاني ، والتي لابد لتعديلها من استفتاء يصوتُ عليه أكثر من نصف الشعب الموريتاني، أو تعديل برلماني يصوت ويصادق عليه ثلثا النواب في مرحلة أولى وثلاثة أخماس النواب في مرحلة ثانية.
إن هذه الاحتجاجات الحالية، والتي لا يشارك فيها إلا عدد قليل جدا من الموريتانيين، رغم محاولة البعض لتضخيمها إعلاميا، لا تخدم لغاتنا الوطنية، وإنما هي احتجاجات من أجل فرض استمرار "الفرنسة القسرية" على أهل هذه البلاد.
إن مما يؤسف له كثيرا مجاهرة بعض الموريتانيين بعداء اللغة العربية، ورفعهم لشعارات لصالح اللغات الوطنية كلما قيم بالحد الأدنى من الحد الأدنى في سبيل ترسيم اللغة العربية . إنهم بتصرفهم هذا يكشفون عن حقيقة مفادها أنهم لا يستخدمون ورقة اللغات الوطنية إلا إذا تم اتخاذ خطوة ـ حتى وإن كانت متواضعة جدا ـ لصالح اللغة العربية. إنهم بهذه التصرفات المستفزة سيخلقون عداءً للغاتنا الوطنية في الأوساط غير الناطقة بها، وهو الشيء الذي قد يقلل من إقبال الموريتانيين غير الناطقين بلغاتنا الوطنية إلى تعلم تلك اللغات، ومثل ذلك إن حصل سيجعلنا نضيع واحدة من أهم الفرص التي أتاحها القانون التوجيهي لتطوير لغاتنا الوطنية.