خلال سفر جمعني في الفترة الأخيرة مع أحد منتخبي حزبنا على إحدى الطرق الطويلة؛ ناقشنا بعض المشاكل التي تعاني منها دائرته الإنتخابية؛ فاقترحت عليه الاستعانة بالحزب لحل بعض تلك المشكلات.
كانت إجابة "المنتخب" مباشرة وصادمة حين خاطبني بحسم: أي حزب تعني..؟ نحن ليس لدينا حزب..! هو مجرد نادٍ للمتذمرين والمستائين والمُنْظَرين إلى يوم الوقت المعلوم..!!
وأضاف في استياء شديد: دعني أصارحك أنه لولا ثقتي في ولاء الفاعلين في دائرتي لما انتويت أبدا الترشح للاستحقاقات القادمة، فنحن للأسف ليس لنا حزب، وأؤكد لك أنني لست بدعا في هذا الشعور ، فجميع من ألتقيهم من زملائي ومن شتى الفاعلين يشاركوني نفس الرؤية..!
استحضرت هذا الكلام مساء أمس وأنا أتابع ما انبثق عنه اجتماع تنفيذي حزبنا -الاتحاد من أجل الجمهورية- حيث غابت عن الكلمة الافتتاحية المطولة لقيادته وعن بيانه الختامي أي فقرة سياسية يمكن الركون إليها حال قراءة أي منهما (الكلمة والبيان).
فلا أولويات الوطن حضرت؛ ولا الجهود المعتبرة -المقام بها من طرف الحكومة لمواجهة ظرفية عالمية غاية في الصعوبة على مستوى الأسعار- ثُمنت؛ ولا حتى الاحتقان والتشرذم الذي يكاد يعصف بالحزب نوقشت مسبباته ولا آلية التغلب عليه، أما هموم المواطن اليومية ومعاناته من تردي الخدمات(مياه وكهرباء) بل وانعدامها في أغلب الأحيان فلعل قيادة الحزب "الحاكم" غير معنية بها إطلاقا.
حينها لم أجد للحديث عن الموقف عنوانا أنسب من "الانتحار السياسي" فهو التعريف الجامع المانع الأنسب والوحيد الذي يمكن أن يحتاط بجميع الجوانب الهيكلية للموقف.
لا أخفيكم سرا أننا حين نريد من الحزب -في هيكله الحالي- أن يضطلع بدوره الطبيعي سواء تعلق الأمر بالوقوف إلى جانب المواطن أو تسويق وتوجيه عمل "حكومته" فإننا نظلمه، لأننا نضعه في حجم أكبر منه ونطلب منه المستحيل.
إن التعويل على خلق وضعية سياسية تناسب المرحلة من حزب يعيش موتا سريريا أمر غير منطقي، ودفن للرأس في الرمال، كما أن غياب الذراع السياسية لأي حكم يعد شللا نصفيا في جسمه، وهذا ما سينعكس سلبا في الذراع التنفيذية، وعلى باقي أجزاء المنظومة.
حتما لابد أن ننطلق من الواقع قبل أن نظلم أنفسنا ونظلم قيادة الحزب، فالحزب منتهي الصلاحية وعملية محاولة تزوير تاريخ صلاحيته لم تنجح رغم نجاح تغيير عُلْبَته.
في الجانب فاتح اللون من قارتنا السمراء حكم الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك بلاده بحكومة استوزر بعض أعضائها لما يقرب من ثلاثة عقود، ورغم الملاحظات والجوانب الخدمية والكثير من الملفات الأخرى، إلا أن قوة الحزب الوطني الحاكم في أم الدنيا، كانت تغطي على جوانب الضعف، وتسوي الكثير من المطبات في طريق مشروع الحكم؛ ومع بداية ازدياد نفوذ هواة السياسة داخل الحزب، وإبعاد مراكز القوة السياسية الصلبة، بدأ الضعف ينخر الحزب، ما ألقى بظلاله على كافة أجزاء هيكل الحكم، خصوصا مع ازدياد الوعي الشعبي، ليستفيق مبارك من غفلته بعدما بدأ المشروع يتهاوى لبنة لبنة، ورغم مبادرته بالترقيع وإخاطة الرتق، إلا أن المشروع كان قد تهاوى بالفعل، ولات حين مناص.
إن أي كينونة سياسية معاصرة لابد أن تكون لديها خيط ناظم وثوابت معينة وخطوط حمراء، كما أن الولاء التام للقيادة أمر ضروري، لأنها تشكل مركز التقاضي؛ وماكينة الربط بين الأجزاء.
وبدون مواربة لابد أن نتصارح أنه في حزبنا، لاالنواب ولا العمد ولا حتى الهيئات القاعدية للحزب يدينون بالولاء لقيادة الحزب؛ وقد ساعد في الوضع المترهل الذي يئن الحزب الآن تحت وطأته غياب الرؤية والخطاب السياسيين القادرَين على توحيد الصف وتوظيف الخبرات والإمكانيات.
والأكيد أن ربان سفينة البلد بحكمته وحنكته مُدركٌ لهذه الحقيقة الماثلة للعيان؛ لكن للظرفية الحالية إكراهاتها وأولوياتها الخَدَمية؛ ومن بعد ذلك سيُفتح باب المغادرة الطوعية من سلة مهملات أنظمة القمع والاستبداد والنهب إلى فضاء تشكيل سياسي لما يرى النور بعد؛ يُعبر حقيقة وحُكما عن برنامج العهد والإنصاف "تعهداتي" ويدين الغيورون على الوطن بالولاء الكامل له وحده.
حينها وحينها فقط سيميز الله الخبيث من الطيب؛ لترفرف راية سلطان "التعهدات" التي تنفع الناس وتمكث في الأرض، أما الهواة فقد نصبوا بالأمس مشنقة انتحارهم السياسي نتيجة تعاطي جرعة زائدة من الحرص على تحقيق المصالح الشخصية ليتكفل الارتباك وانعدام الخبرة بالباقي، ليقضي الله أمرا كان مفعولا ؛ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حيي عن بينة..