قولا واحدا.. لن يخلد التاريخ من لم يكتبه بيده، ولن يكتب التاريخ أخرس؛ فالتاريخ نفسه أخرس، ونحن من يرغمه على الحديث عنا، لكنه حين يتحدث يفعلها بإسهاب، وهو في نفس الوقت انفعالي، إذ أنه يمكن أن يسكت عنك إذا لم ترغمه على الحديث، لتكون بذلك موضع نكرة، وحين ترغمه على الحديث عنك؛ لابد أن يضعك في خندق، وأنت من تختار أي الخندقين؛ إما في خندق الخير، وإما في خندق الشر.
وبعيدا عن الانطباعية لابد أن نستذكر مع التاريخ الصامت حتى اليوم ما حققه الرئيس غزواني، من إنجازات، صح أن توضع في "أوائل العسكري"؛ حيث ظلت علاقة أغلب المواطنين الموريتانيين مع الدولة مجرد علاقة الجُزر مع جوارها يحول بينها البحر مع أقرب جار.
ومع تسلم ولد الشيخ الغزواني للحكم؛ وفي ساعة العُسرة والخوف والوباء، كان المعدمون في الضواحي والأرياف يستيقظون على قرع أفراد الجيش أبواب منازلهم، ليس لاعتقالهم كما تعودوا من ملل غابرة؛ بل لتوزيع المؤونة والسلال الغذائية، والمبالغ النقدية، وبطاقات تموين السمك الطازج عليهم.
وفي الأحياء النائية حيث تنتشر الجرائم والتعاطي نتيجة العوز وقلة ذات اليد، سجل الرئيس غزواني ثاني هدف من أهداف توطيد العلاقات بين الدولة ومن كانوا محرومون منها؛ بتوجيهه أغلب مشاريع البنى التحتية من طرق -ذات جودة عالية- وإنارة عمومية ومشاريع خدمية إلى ساكنة تلك الأحياء، ما جعل العلاقة بين ساكنة تلك الأحياء وبينه علاقة رئيس بمرؤوس، بعد أن كانت علاقة ناسٍ بمنسي.
أما الهاتريك الذي سجله الرئيس غزواني في تصاعد نفس المنحنى؛ فقد كان من خلال إنصاف الفئات الاجتماعية الهشة، وضحايا الاسترقاق وأبنائهم، حيث وجه أجهزة الدولة ورصد الأموال للرفع من واقعهم المعيش وإنصافهم ممن هضمهم الحق، حتى صرح أكثر النشطاء ضد الاسترقاق راديكالية يومها "أنا أجبرت صاحبي".
ولعل أجمل (سوبر هاتريك) يتم تسجيله في مرمى التنمية هو قرارا التأمين الشامل الذي عجز كل -وأكرر كل- رؤساء الدول المجاورة ومن هم في مرحلة دولتنا الفتية عن مجرد التفكير في ند له أو شبيه أو مقارب حتى؛ ليكون الرئيس بذلك قد أغلق الضلع الرابع من رباعيته النظيفة.
لكن؛ وبما أن الحياة الدنيا مبنية على عدم الكمال؛ فقد ابتلى الله الرئيس الذي يعمل دون كلل بأذرع خرساء، لهم قلوب لايفقهون بها، ولهم أعين لايبصرون بها، ولهم آذان لا يسمعون بها، لا يستفيدون من تجارب الماضي، ولا يتعلمون من أخطائهم، ولا يستفيدون من دروسهم؛ عالة على المرحلة، سبة في جنب تاريخها، معرة في عرضها، نقطة متخسة في جسمها النظيف.
يرون كتابة مقال إنجازا، واستقبال سفير إعجازا، وفتح صفحة ألكترونية معجزة، ومسايرة المرحلة مجحفة.
حين شرّق الرئيس شطر الضعفاء، غرّبوا صوب الأغنياء، وحين أفطر من صيامه مع العامة؛ أفطروا مع علية القوم، حديثهم متهافت، وطرحهم متقادم، يفتقرون للفعل، ويعتاشون على رد الفعل.
ومنهم من يتمسك بإعلام الحواضر، في عصر الفيديو والوسائط، لغتهم فقيرة وحجتهم داحضة، إذا قالوا كذبوا، وإن أستؤمنوا خانوا، وإن استُودِعوا سرقوا.
ثلة لايرجى منها فلاح، ولا يطمع للأمر منها بصلاح، وهي أسوء عبئ على المشروع الإصلاحي، لفخامة رئيس الجمهورية، الذي يعد فرصة نادرة لبناء وطننا في مرحلة دقيقة من التاريخ الموريتاني المعاصر.
وتالله مابين الأغبرين من أغر، ومابين شثني المناسم من محجل ، وهم كما قال الشاعر :
كلا الأخوين "كذاب" ولكن ** شهاب الدين "أكذب" من أخيه.