صدر مؤخرا عن الدار العربية للعلوم "ناشرون" وعلى نفقة مكتب الجزيرة للدراسات كتاب جديد لأحد أبناء ولاية لعصابه المؤرِّخ والقانوني الدكتور الداهية ولد محمد فال المختار، تحت عنوان "موريتانيا وقضية الصحراء من الحرب إلى الحياد: قراءة في الحصيلة والآفاق" .
والكتاب هو في الأساس بحث لنيل شهادة الدكتوراه لصاحبنا ، ويضم قرابة 270 صفحة من الحجم العادي ، وقد تناول فيه الكاتب خلفيات الصراع التاريخية ومآلاته ، مع سرد أمين لكل الأحدات ما قبل وأثناء وبعد الصراع ، حتى الملاحق المتضمنة اتفاقيات السلم والمحاضر الخاصة بها .
وقد تعرض الكاتب في بحثه لإشكالية التعاطي الموريتاني مع قضية الصحراء في ظل اللبس والغموض والمأزق النظري والسياسي والجيوستراتيجي المحاط بهذا التعاطي، الذي يصفه البعض بالموالي للمغرب، وينعته آخرون بالموالي للجزائر وجبهة البوليساريو، ناهيك عمَّا "تتمسك به السلطات الرسمية الموريتانية من التزام الحياد بين مختلف أطراف القضية".
ويحاول الباحث عبر فصول الكتاب الصادر عن مركز الجزيرة للدراسات في يناير/كانون الثاني 2015، مقاربة هذه الإشكالية في أبعادها الإقليمية والدولية وإبراز السياقات السياسية والجيوسياسية للتعاطي الموريتاني مع قضية الصحراء (النشأة والتطور) متسائلًا: هل وجود موريتانيا في ملف الصحراء هو الذي خلق مشكلة الصحراء؟ وهل للاستراتيجية التي انتهجها النظام الموريتاني دور في تفاقم المشكلة؟ وهل للعوامل الإقليمية والدولية دور في استمرارها؟ وما الاستراتيجيات والتكتيكات التي اعتمدتها موريتانيا في التعاطي مع القضية؟ ولماذا غيَّرت موريتانيا مطالبها من الوحدة الشاملة إلى القبول بالتقسيم مع المغرب ثم الاكتفاء بدور المحايد؟ وما حقيقة الموقف الموريتاني من قضية الصحراء: هل هو حيادي فعلًا أم أن السلطة الموريتانية تمارس لعبة التقيَّة في العلن وتميل لأحد الأطراف في الخفاء؟ ما موقف النخب والأحزاب السياسية الموريتانية من قضية الصحراء؟ ما موقف موريتانيا من المقترح المغربي الأخير بشأن الحكم الذاتي للأقاليم الصحراوية؟ هل بإمكان موريتانيا أن تساعد في حلِّ مشكل الصحراء؟ ما تأثير الربيع العربي على قضية الصحراء؟
للإجابة عن هذا الحقل الاستفهامي استعان الباحث بأدوات منهجية نسقية ووظيفية واستنباطية، كما لجأ إلى مقترب متعدد التخصصات؛ حيث وفَّق بين مجموعة من الفروع المعرفية: قانونية وسياسية واقتصادية وعلاقات دولية وتاريخية وجغرافية للوقوف على سائر أبعاد موضوع الدراسة. وقسَّم الكتاب إلى محورين أساسيين، وجاء المحور الأول بعنوان "موريتانيا كطرف مطالِب بالصحراء: الأسس والمرتكزات"، وخلص الباحث إلى أن الموقف الموريتاني من الصحراء اتسم في البداية بنوع من التشدد والراديكالية؛ حيث اعتبرت موريتانيا "الصحراء وموريتانيا" كلًّا لا يتجزأ، وهو موقف له ما يبرره في تلك الفترة، كما يرى الكاتب؛ إذ كانت موريتانيا نفسها موضوع مُطالَبة من المغرب، الشيء الذي أدى إلى اتساع الهوة بين البلدين، نتيجة رؤيتهما فيما يخص تدبير قضية الصحراء؛ إلا أن تغييرًا جديدًا في النهج والممارسة سيطبع التعامل بين الرباط ونواكشوط؛ وذلك بعد انضمام موريتانيا إلى الأمم المتحدة عام 1961 ثم مشاركتها في تأسيس منظمة الوحدة الإفريقية سنة 1963؛ حيث تمكَّن الراحلان: الملك الحسن الثاني والرئيس المختار ولد داداه، بعد انعقاد قمة المؤتمر الإسلامي الأول في الرباط عام 1969، من التفاهم حول التدبير المشترك لملف الصحراء وتحريرها من الاستعمار الإسباني.
وتناول الباحث في المحور الثاني، وهو بعنوان "موريتانيا كطرف محايد لكن معني بالصحراء"، تحوُّل التعاطي الموريتاني مع قضية الصحراء، الذي بدأ مُتشددًا لا يقبل المساومة على الصحراء؛ بل يعتبرها موريتانية ثم معتدلًا وذلك بقبول تقاسم الصحراء مع المغرب، وأخيرًا حياديًّا يعتريه الغموض والالتباس والضبابية مُتسترًا خلف القرارات الدولية والتشبث بالشرعية الدولية. وهنا يستنتج الباحث أن التعاطي الموريتاني مع قضية الصحراء لم يتجاوز فترة الرئيس الراحل المختار ولد داداه؛ حيث اتسم بالجدية والصراحة والصرامة ووضوح الرؤية وتماسك الاستراتيجية بينما اتسم تعاطي الرؤساء الذين جاؤوا من بعد المختار ولد داداه بالارتجالية والتقصير أحيانًا واللامبالاة أحيانًا أخرى.
ويخلص الدكتور الداهية ولد محمد فال المختار إلى أن ملف الصحراء خلق هوَّة سحيقة بين الأقطار المغاربية بلغت حدَّ القطيعة وغلق الحدود والحرب الطاحنة بشكل مباشر وغير مباشر وبالوكالة، وأصبحت القضية ترواح مكانها بعد وقف إطلاق النار بين جبهة البوليساريو وموريتانيا في أغسطس/آب 1979، وبين الجبهة والمملكة المغربية عام 1988، مشيرًا إلى فشل جهود المنظمات الإقليمية والدولية في إيجاد تسوية لهذا النزاع الطويل الشائك والمعقد بدءًا بمخطط التسوية الذي اقترحه الأمين العام للأمم المتحدة خافيير بيريز ديكويلار مرورًا بجيمس بيكر وفان والسوم وانتهاء بكريستوفر روس.
ويرى الباحث أن قضية الصحراء لن تُحل إلا بالتحلي بالحكمة والحنكة والواقعية من جهة أطراف النزاع والدول المجاورة المعنية بالموضوع، معتبرًا أن المراهنة على حل القضية عن طريق الوحدة المغاربية لن يكون رهانًا خاسرًا؛ لأنه يحقق لكل الأطراف ما تطمح إليه؛ فالمملكة المغربية أقصى طموحها هو أن تبقى الصحراء الغربية يرفرف عليها العلم المغربي؛ لأنها تعاني من هاجس التجزئة ومستعدة لقبول خيارات خارج الانفصال، وإذا وُحِّد المغرب العربي فسيحلُّ علمُه محل أعلام التجزئة وهو ما ستطمئن له نفوس جبهة البوليساريو التي تعاني من عقدة الاحتلال والاستعمار وهو ما لم يكن مطروحًا في حال الوحدة المغاربية. بينما تعاني الجزائر من عقدة بسط النفوذ والتنافس مع المغرب والتمايز مع طرحها، وهو اختلاف سيختفي بعد الربيع العربي؛ لأن الأيديولوجيا الأساسية للربيع العربي هي الحرية والعدالة والمصلحة المشتركة للشعوب، وبالتالي ستغلب مصلحة سكان الصحراء التي لن تكون إلا جزءًا من كل وهي مصلحة المنطقة المغاربية كلها.