الحوار محمدة كبيرة وسنة كونية بدأها الله بنفسه مع سائر مخلوقاته وسنها لمن استخلف في الأرض لعمارتها وقد جاء في القرآن الكريم أن الله سبحانه وتعالي تحاور مع ملائكته ومع آدم عليه السلام ومع الأنبياء والرسل من بعده وحتي مع إبليس وتحاور الأنبياء مع بعض المخلوقات غير الناطقة.........وكان صلي الله عليه وسلم يتبادل الرأي مع صحابته ويعدل عن الكثير من مواقفه التي لم تكن وحيا ......مما يعني أن معاشر الناس بحاجة للتخاطب والمراجعات وتبادل الرأي والإستعداد للقبول بالخطأ والرجوع عنه.....
وفي هذا السياق ماتزال أصداء مؤتمر انواكشوط تشغل الكثير من رواد هذا الفضاء التفاعلي وتنعش الكثير من الأفكار الجادة و البناءة رغم تسجيل بعض المواقف التي لا تخلو للأسف من بعض القسوة غير الشافعية.....رأيي صواب يحتمل الخطأ ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب.
ذكر البعض ممن يدافع عن فكرة المؤتمر أن الحديث كان عن عائلة ابراهيمية وليس عن دين إبراهيمي وقال آخرون بأن الموضوع يعني ديانات إبراهيمية وليس ديانة واحدة وتطرق البعض الآخر للسلم بين المسلمين في إفريقيا كأحد مقاصد المؤتمر الذي أقر جائزة تشجيعية لمن يقدم عملا يخدم ذلك الهدف....وبغض النظر عن القبول بهذه الدفوع من عدمه فإن العائلة الإبراهيمية مصطلح بحاجة لتأصيل قبل الحديث عنه....
فإما أن يكون التعريف بمرجعية نَسَبية أو يكون التعريف بمرجعية دينية.
فإن كان التأصيل نَسَبيا فالعائلة الإبراهيمية جامعة لفسيفساء متنوعة ومتناقضة فمنها المؤمن ومنها الكافر ومنها الصالح ومنها الطالح ومنها الأنبياء والرسل ومنها مردة الكفر والفسوق.....والصراعات القائمة اليوم بين أبناء هذه العائلة هي صراعات وجودية وأكثر الصراعات دموية وبشاعة ولا تُقبل لها نتيجة بالتعادل....
ولئن كان كل أنبياء بني إسرائيل قد خرجوا من نسل إبراهيم حالهم حال رسول الله صلي الله عليه وسلم فإن إلحاق عيسي عليه السلام به لا يمكن أن يكون مطلقا ولو أن مريم يعود نسبها إليه لأن عيسي كلمة من الله وهو معجزة في خلقه تماما كما كان آدم عليه السلام.
ولم يسبق أن تحدث عن نسل إبراهيم بهذا المعني الجيني إلا اليهود الذين زعموا في توراتهم أن الله عز وجل وهَبهم أرض فلسطين بقوله لإبراهيم : "لِنسْلِك أعطي هذي الأرض من نهر مصر إلي النهر الكبير نهر الفرات" ولا يقبلون بشريك لهم في هذه التركة.....وقد جسدوا تلك الآية التوراتية بعارضتين زرقاواين في علم الكيان رمزا للنيل والفرات وحددوا مساحة كيانهم الغاصب بالأرض الممتدة بينهما.......
أما إن كان تأصيل العائلة الإبراهيمية يعود لخلفية دينية فقد تنزلت علي إبراهيم عليه السلام صحف يقال إنها زادت علي العشرة وقلت عن العشرين كما كانت صحف نزلت من قبل علي آدم وغيره من سائر أنبياء الله ورسله غير الذين نزلت عليهم كتب سماوية بوحي ملهم أو وحي منطوق........وليست الصحف كالكتب .
فلماذا لم ينزل الله عز وجل كتابا علي إبراهيم كما كان الحال مع موسي وداوود وعيسي ومحمد صلي الله عليه وسلم ؟ ومهما يكن الجواب يبقي ذلك دليلا علي أن إبراهيم لا يمثل مرجعية جامعة لمن جاء بعده......
وقد جاء في القرآن الكريم :"ما كان ابراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما....." ومن هنا تسمت ديانته بالحنيفية.....والمسيحية واليهودية نسخوا الحنيفية ونعتوها بعبارات غير لائقة ومن بقي عليها يعتبرونه صابئا....
انحسرت الحنيفية كثيرا ولم يبق عليها ممن لم يتهود ولم يتنصر إلا نفر قليل من سادة الرأي وأصحاب البيان في الجزيرة العربية يذكر منهم بعض المؤرخين قس بن ساعدة الإيادي وأمية بن أبي الصلت ويزيد البعض الآخر بزهير بن أبي سلمي وورقة بن نوفل ......
أما من حيث العقيدة فالمسلمون يؤمنون بأن الدين عند الله الإسلام حصرا وأن محمدا صلي الله عليه وسلم خاتم الأنبياء والمرسلين فكيف يمكن القبول بإطار ذي خلفية دينية يكون جامعا للمسلمين مع ديانات يرون أن الإسلام قد نسخها وحل محلها !!!!! الإجتهاد في هذا الموضوع يبدو عسيرا للغاية إن لم يكن مستحيلا.......فلا وجود لديانات إبراهيمية بالنسبة للمسلمين ولا وجود لعائلة إبراهيمية جامعة لكل المنحدرين منها.......والكيان الوحيد الذي يُنسب للعائلة الإبراهيمية من الناحية النٌَسَبية ويَدٌَعي إرثها الديني هو دولة إسرائيل الدولة الدينية الوحيدة في هذا العالم وما اختيارهم لإسم الدولة (يعقوب بن إسحاق بن ابراهيم) إلا لتثبيت هذا الإرث التاريخي الديني المزعوم......فأي خير يرجوه منهك مهزوم تتعاوره الفتن والحروب من غصن زيتون يمده لكيان غاصب مهما كان شعار التواصل ومهما تكن لغته !!!!!
أما السياسة فشيئ آخر والإجتهاد بها أمر سهل مع أن لها حدودا تنهي عن فحشائها ومنكرها ولها أسوارا قوية لا يقربها أحد ما دامت الثوابت والمبادى تعني له شيئا....ولكن في كل الأحوال تبقي اجتهادات في أمور لا علاقة قوية لها بالآخرة.
ولكن لا يخفي علي أحد أن رجال الدين في الغرب مجرد بقايا شواهد أن المسيحية مرت ذات يوم بتلك الديار..... لا رأي لهم في شيئ من أمور السياسة والدنيا والدين من أساسه لم يبق منه إلا كرنفالات احتفالية قيمتها الوحيدة أنها راحة معوضة.....ولا يخفي علي أحد أن رجال السياسة والدين في إسرائيل لا يجتمعون إلا علي أمر واحد أن بقاءهم مشروط ببقاء دولة اسرائيل الدينية وبزوال الوجود العربي والإسلامي ....ولا يخفي علي أحد أن للمسلمين من أسباب الهموم وموجبات الإنشغال الكثير الكثير غير بث ثقافة سلم هي قائمة أصلا في الكتاب والسنة والإجماع.....
فهل من الوارد إذن بذل الجهد الجهيد في الحوار مع من لا رأي له في أرضه ولا يقدر علي تحريك ساكن كما هو حال القساوسة في الغرب المسيحي أو في الحوار مع حاخامات مؤمنين أن المسلمين وحدهم من يمثل خطرا وجوديا عليهم !!!!!
السياسة لا تقبل الصدف وأذرع العمل السياسي كثيرة منها الخشن ومنها الناعم ومن الناعم الثقافة والدين...وينعقد المؤتمر في وقت تتسارع فيه الجهود العربية لجعل إسرائيل دولة طبيعية و في وقت تحاول فيه بعض الدول الإفريقية مأسسة القبول باسرائيل دولة عادية من خلال إعطائها صفة مراقب في الاتحاد الإفريقي......
ولأن الأجيال الحالية في إفريقيا المسلمة تأسس الوعي لديها عن هذا الكيان علي أمرين أولهما العداء الديني وثانيهما اغتصاب أرض الإسراء والمعراج تكون الدبلوماسية بحاجة لتهيئة التربة الثقافية والنفسية كي يكون القبول ممكنا.....ويذكر هذا المسعي بحلف سبق أن أقامته أمريكا مع دول إسلامية تحت شعار حلف الإيمان في مواجهة توسع الإلحاد السوفيتي ......فكانت القاعدة والمخابرات المركزية الأمريكية في طليعة فرسان الجهاد في آفغانستان......ولم تمض سنون حتي حول الجميع نصاله نحو العراق أرضا وشعبا ومقدرات وتاريخا وحضارة ودينا.....فمن نبس ببنت شفة من قومنا هؤلاء حين كانت العامرية وحين كان الأطفال يٌشَيعون في بغداد في مواكب حزينة كل يوم وحين احتله الغزاة وما يزالون وحين وحين وحين.......أليس العراق هو منبع الكلمة والحرف ومركز الإشعاع الإسلامي فقها وفلسفة وبه ثلاثون مليون مسلم ويرقد بأرضه الصحابة و الأئمة والأخيار!!!!!
وقد ذكر الذين تبنوا رأي المؤتمرين أن السلم البيني في إفريقيا المسلمة أحد المقاصد الأساسية للمؤتمر ولكن هذا السلم البيني يعني فقط محاربة القاعدة وفروعها والوقوف في وجه الزحف الروسي الصيني في القارة لصالح حلف أمريكا الذي بدأت به سوسة الوهن..... إذ لا علم لنا بصراع بين طوائف إسلامية في القارة الإفريقية علي أساس ديني بحت رغم تعدد المذاهب والملل الصوفية والمرجعيات الدينية فكل واحد يقبل بصاحبه في هدوء وسكينة.....
لقد زاد المدافعون عن فكرة المؤتمر الغموض والتشويش بردودهم ودفوعهم عن فكرة تزداد نأيا عن مدارك القبول.....