مساحة إعلانية

     

  

    

  

الفيس بوك

ضيف وقضية (2) / الأستاذ محمدٌ ولد إشدو

تجاذبات إقليمية

عند انعقاد مؤتمر ألاگ برزت مشكلة أكبر مما سبق؛ هي أن الوزيرين اللذين كانا في الحكومة الائتلافية التحقا أيضا بالمغرب وناديا بمغربية موريتانيا! ورغم ذلك ظل الرئيس المختار يلح على أن يعقد المؤتمر بمشاركة نفس الحزب مع حزبه وبعض القوى السياسية الأخرى كحزب سياسي محلي في گورگل بزعامة صنبولي رحمه الله. ودعا حركة الشباب للمشاركة

في مؤتمر ألاگ، لكنها اعتذرت بكونها ليست حزبا سياسيا.
ورغم صعوبة المسعى نالت دعوته الوحدوية الأغلبية واندمجت القوى السياسية الموريتانية في حزب واحد هو حزب التجمع الموريتاني، ووضعت قواعد الدولة الموريتانية في ألاگ.
لحسن: تحدثتم في إطار التمهيد لمؤتمر ألاگ عما أسميتموه بالتحرك الذي قام به الزعيم أحمدُ ولد حرمه؛ والذي نادى بمغربية موريتانيا. هل تم النظر حينها من قبل الحكومة والشعب الموريتانيين إلى الأستاذ أحمدُ ولد حرمه على أنه دخل في مجال الارتهان للمملكة المغربية؟ هل خوِّن في هذه الدعوة؟
ذ. إشدو: في الحقيقة لم أكن أعي سياسيا في ذلك الزمن، ولكن المعلومات المتوفرة عن تلك الفترة تدل فعلا على ذلك؛ خاصة أن الزعيم أحمدُ ولد حرمه (رحمه الله) وصل به الأمر إلى أن كان عضوا في الهيئة القيادية التي تتألف من ثلاثة أعضاء ويقودها الملك الحسن الثاني رحمه الله، والعضو الثالث هو الزعيم محمد الحنشي ولد محمد صالح القيادي في النهضة.
هذه القيادة الثلاثية – أو هيئة الأركان- هي التي كانت تدير العمليات التي يسميها المغرب آن ذاك بالمقاومة، وتسميها موريتانيا الإرهاب، كـ"اعمارة النعمة" (التفجير) واغتيالات الحاكم محمد الأمين ساغو رحمه الله، والنائب عبد الله ولد عبيد (رحمه الله) هنا في انواكشوط.. وغيرهم. وقد جرت محاكمة هنا بهذا الخصوص، وحكم عليه بالإعدام للأسف آن ذاك. وقد عاد الزعيم  محمد الحنشي إلى الوطن في صدر الستينات؛ أما الزعيم أحمدُ فلم يعد إلا بعد انقلاب 1978 وقد التقيت به يومئذ أمام دار المصطفى بُرَيَّ رحمهما الله. لكن هذا لا ينفي ذلك الماضي المجيد الذي كان لديه.
نحن مشكلتنا الجمود في التقويم؛ إما أبيض وإما أسود! ينبغي أن ننظر إلى فترات حياة الإنسان ونزن إيجابياته وسلبياته. هذا نادر في موريتانيا لكني أذكر لكم هذا من حيث التاريخ.
لحسن: إذن يمكن القول إن الزعيم أحمدُ ولد حرمه كان يقود مشروعا لضم موريتانيا إلى المغرب.
ذ. إشدو: بالطبع! الزعيم أحمدُ ولد حرمه عندما هاجر إلى المغرب التحق بمكتب المغرب العربي في القاهرة، وكان فيه علال الفاسي في ذلك الوقت، وفيه ممثل عن الجزائريين الثائرين آن ذاك؛ ثورتهم بدأت 1954 وأعتقد أن معهم ممثلا لتونس. وكانوا يريدون تصفية الاستعمار من المغرب العربي، لكن هذه التصفية كانت بالثورة في الجزائر، واستطاعت تلك الثورة التي كانت ظروفها ناضجة أن تؤتي النتيجة، واستطاع المغرب أيضا وتونس أن يستقلا، لكن كانت لموريتانيا ظروف أخرى. لم تكن ظروف الثورة ناضجة فيها، وظروف الثورة لا تفتعل إما أن تكون ناضجة فذاك، كما قال العربي بن مهيدي، كان عشرة أشخاص يريدون القيام بثورة فتشاورا فيما يفعلون فقال لهم العربي بن مهيدي: ارموها من النافذة وسيتلقفها الشعب الجزائري لأنه ثائر. أما من عمد إلى الثورة ورماها من النافذة فلن يتلقفها الشعب الموريتاني في تلك الفترة. كان حزب النهضة موجودا ولكنه وجود محدود وكان الناس بدوا متخلفين و"سيروا سير ضعفائكم". والسياسة هي فن الممكن، وأعتقد أن الممكن في تلك الأيام هو ما حاوله الرئيس المختار ولد داداه وصحبه.
أود أن أذكر بأن من بين أعضاء حزب الرئيس المختار من لم يكن يسعى إلى الاستقلال وقاموا بدعاية ضد الاستقلال، وقالوا إن موريتانيا لم يكن بإمكانها الاستقلال عن فرنسا وينبغي أن تظل تابعة لها؛ خصوصا وأنها تحميها من الأطماع المغربية، أما قادة حركة الشباب والنهضة فلم يروا في الأمر استقلالا وشككوا فيه، وكانت هناك أيضا جماعات تسعى للارتباط باتحاد مالي الذي قام بين السنغال ومالي؛ وهي جماعات مؤثرة  ولها زعماء. إذن كل هذا كان في الساحة.
لحسن: قبل أن نتجاوز هذه النقطة، عندما يتعلق الأمر – من ناحية تصفية الاستعمار في موريتانيا- والجهة التي ربما لم تكن تساند هذا الرأي وترى أنه يجب على موريتانيا أن تعتمد دائما على قوة لأنها كيان وليد حديث النشأة، وكانت دائما تدعو إلى الاعتماد على القوة الفرنسية حينها. لكن وجهت أيضا اتهامات، ودائما توجه، من قبل الكتاب والباحثين في هذا المجال؛ حتى إلى الرئيس المؤسس المختار ولد داداه، بأنه لم يستطع حينها تصفية الاستعمار بشكل نهائي من موريتانيا وظل يتلقى بعض الأوامر والقرارات من الأليزيه؛ على الأقل فيما يخص بعض المسائل المصيرية داخل موريتانيا. ما حقيقة ذلك؟
ذ. إشدو: ينبغي أن نكون موضوعيين، وأنا لن أحدثكم إلا بما لدي ما يثبته. الرئيس المختار ولد داداه اتهم مرارا وتكرارا بأنه عميل للاستعمار، وألطف ما قيل في هذا المجال هو ما قاله المختار ولد حامدٌ رحمه الله:
يا حبذا عملاء الاستعمار ** إن كانت العملاء كالمختار
وفي نهاية الأبيات يقول:
ما بال بائهمُ تجر وباؤه ** - والكل باء- ليس بالجرار؟!
ما الذي جعل أكثر الناس ينال الاستقلال بطريقة غير عُنفِيَّةٍ ولا ثورة ولم يتهم بعمالة الاستعمار (يقول المختار) واتهم بها المختار، والكل باء! الباء لا يمكن أن تجر في محل دون آخر، وفي المثل "ما بال بائك تجر وبائي لا تجر"؟!
وحقيقة الأمر هي أن الرئيس المختار (رحمه الله) قاد ملحمة صعبة ولم يكن بمفرده كما يصرح بذلك في مذكراته حيث يقول إنها ملحمة خاضها الموريتانيون كلهم، وإنه كان المنسق الذي يجلس في مقعد القيادة، لكن كل واحد من زملائه ومن شعبه قام بدور في هذه الملحمة.
يومها كانت العاصمة قفارا، فلم يكن هنا أي شيء. الاقتصاد لم يكن يوجد بأي شكل من الأشكال. الثقافة كان يعد على أصابع اليد من لديهم شهادة الدروس الابتدائية؛ أما الإعدادية والباكلوريا فلا مجال للحيث عنهما!
والأطماع الأجنبية فاغرة أفواهها من كل ناحية! من الشمال، ومن الجنوب، ومن الشرق، لأن جمهورية مالي كانت عضوا في حلف الدار البيضاء الذي شكل آن ذاك، وكانت من أشد ما قاست موريتانيا، وجميع العمليات التي حدثتكم عنها كانت تنفذ عن طريق مالي. السنغال كان أخا شقيقا مشاغبا، ومواقف الرئيس سنگور معروفة من موريتانيا ومن الحدود مع موريتانيا ومن سكان الضفة ومِن زعْمِ أن حدود السنغال تبدأ من الضفة الشمالية للنهر.. إلخ. كل هذا معروف.

تذليل العقبات
استطاع الرئيس المختار وجماعته أن يخرجوا من كل هذه التحديات بسلام، وأن يؤسسوا دولة من لا شيء تقريبا، وبدؤوا بإنشاء العاصمة ثم انتقلوا إلى هنا، وأول من انتقل إلى هنا شخصان: المختار وسيد المختار. ويقول المختار إنهما انتقلا لا ليقنعا فرنسا ولا السنغال بأن موريتانيا أصبحت موجودة ولها عاصمة هي انواكشوط، وإنما ليقنعا الموريتانيين أيضا، وخاصة أعضاء الحكومة وأعضاء الإدارة الجنينية الموجودة في مدينة سان لويس بأن العاصمة صارت انواكشوط وينبغي أن ينتقلوا إليها.
وجدوا الكثير من الصعوبات، لكنهم تغلبوا على تلك الصعوبات وبدؤوا معركة استخراج الحديد الذي شكل العمود الفقري للدولة الجديدة.
هذا الرأي لم يكن صائبا فقط؛ وإنما هو الوحيد الذي يمكن أن ينجح، وكدليل على صحته أن حركة الكادحين (الحركة الوطنية الديمقراطية) نصحت جبهة البوليساريو بعد تشكيلها وفي إطار مطالبتها باستقلال الصحراء ومطالبة المغرب بالصحراء ومطالبة موريتانيا بالصحراء، وربما كان آخرون يطالبون بالصحراء دون أن يعلنوا ذلك. نصحتهم أن يعملوا مع إسبانيا ما عملت موريتانيا مع فرنسا؛ أن يستعينوا بالإدارة الإسبانية ويقبلوا قواعد إسبانية في بلادهم تحميهم من الأطماع الأجنبية مؤقتا إلى أن يستتب استقلالهم فيخرجوها كما أخرجنا نحن القواعد الفرنسية وأممنا فيما بعد "ميفارما".
لا شك أن هذا المشروع وهذا المَعْلم (مَعْلم الاستقلال) اعترضته مجموعة من العقبات كانت أولاها ملحمة الاستقلال وميلاد الدولة والانتقال من العدم إلى الوجود، التي حدثتكم عنها وما اكتنفها من صعوبات، كانتقال العاصمة واستخراج الحديد.. إلخ؛ والتي خلالها حقق الرواد بعض المكاسب رغم ضعفهم.
لقد تبنوا ما سمي سياسة التقشف سنة 1963 فاستغنوا عن مبلغ مالي كانت تدفعه فرنسا للميزانية الوطنية، وانتهجوا آن ذاك سياسة تسمى سياسة القَدوم (الگادوم) وهي عبارة عن لجنة تتفقد كل وزارة فتقتطع جزءا من ميزانيتها لكي تستغني البلاد عما كانت فرنسا تدفعه. هذه سياسة التقشف.
واتخذوا أيضا نهجا أساسيا انتهجته الدولة حتى 1978 وأنا شخصيا تحدثت عنه مرارا وقلت إنه لا يمكن القضاء على الفساد ولا يمكن إصلاح الإدارة الموريتانية والدولة الموريتانية ما لم نعد إلى هذا التقليد الذي أسس في تلك الأيام؛ ألا وهو الفصل بين السلطة والمال. وقد روى لي الأستاذ محمذن ولد باباه - أطال الله بقاءه – فترتنا في بو امديد قصة جرت بينه وبين الرئيس المختار. وقعت قضية سجن فيها أحد الوزراء الكرام بسبب ما لا يصل إلى 80.000 أوقية وصلت إليه على نحو قانوني، وكما يقول الموريتانيون "يعطي الشرع ال اتهاب الرگبه".
غضب محمذن ولد باباه فطلب مقابلة الرئيس فلما دخل عليه نهض واستقبله واقفا، وكان يلقبه بالعميد لأن محمذن سبق أن كان عميد الثانوية الوطنية هنا أيام كانت أكبر ما لدينا من "الجامعات".
يقول لي محمذن: سلمت عليه، وقبل أن أجلس قلت له: المختار.. إنك ستفسد موريتانيا وأرجو أن لا يكون في نسبك عرقُ سوء؛ فأنت تبغض أبناء البيوت العظيمة، ولا أدري هل أنت وفيٌّ لأصدقائك أم لا! أتسجن رجلا عظيما يكتب بكلتا يديه، ويتصف بكذا وكذا.. (وهو فعلا رجل فاضل) وابن صديقك من أجل مبلغ ضئيل له مسوغ قانوني؟!
سألني: هل أنهيت ما في جعبتك؟ قلت له: نعم، قال: أيها العميد إن بيني وبينكم اتفاقية هي الفصل بين السلطة والمال. فمن أراد منكم السلطة وأبهتها فليبق فيها ونضمن له حياة كريمة ومجدا واحتراما، ولكن ليبتعد عن المال. ومن أراد منكم المال فليدع السلطة وأنا مستعد للوساطة بينه وبين المصارف لتقرضه ويكسب المال، ولكن لا يمد يده إلى السلطة. هذا هو المبدأ الذي اتفقنا عليه؛ فإذا كنتم ما تزالون ملتزمين به فبها ونعمت. كان لديكم التزام بهذا فهو الاتفاقية بيننا.
قال لي محمذن: لم أجد ما أقوله فخرجت عنه وذهبت! فقد كان صريحا.
وهذا من الأمور الأساسية التي حكمت الدولة في تلك الفترة.

ثلاثاء, 01/12/2015 - 10:24