محمد الأمين ولد الفاضل
يحكى فيما يحكى أن أستاذا حكيما جاء يوما إلى طلابه يحمل سطلا ومجموعة من الكرات الصغيرة المتفاوتة في الحجم، بعضها صغير جدا، وبعضها أكبر قليلا. أخذ الأستاذ الكرات الأكبر قليلا، ووضعها داخل السطل حتى امتلأ، وبعد ذلك التفت إلى طلابه وسألهم إن كان السطل قد امتلأ، فأجابوه بصوت واحد : نعم.
بعد ذلك أخذ الأستاذ بعض الكرات الصغيرة جدا، وأخذ يضع الواحدة منها تلو الأخرى، في الفراغات الموجودة بين الكرات الأكبر قليلا، ثم سأل طلابه من جديد إن كان السطل قد امتلأ فأجابوه جميعا ـ وللمرة الثانية ـ بنعم.
أخذ الأستاذ بعد ذلك عدة حفنات من الحصى، ووضعها في السطل، ثم أخذ يرجه رجا، حتى اختفى الحصى كل الحصى داخل المنافذ والفراغات الصغيرة جدا التي بقت موجودة بين الكرات، وهكذا استطاع السطل أن يستوعب كل الحصى الذي وُضع بداخله، وذلك على الرغم من أنه كان قد امتلأ وللمرة الثانية، ولم يعد يتسع لأي شيء جديد، حسب إجابات الطلاب.
إن العبرة التي أراد الأستاذ أن يوصلها إلى طلابه من خلال تجربة السطل والكرات الصغيرة هي أن العمر مجرد وعاء كالسطل، وأن الكرات الصغيرة الأكبر حجما تمثل كل الأشياء الأهم في حياتنا (الأولويات)، بينما تمثل الكرات الأصغر الأمور المهمة في حياتنا، والتي تأتي في الترتيب ومن حيث مستوى الأهمية بعد الأمور الأهم، في حين تمثل الحصى في حياتنا كل الأشياء الأقل أهمية (الترفيه)، أو غير المهمة إطلاقا كمتابعة مئات الحلقات من مسلسل تافه مدبلج.
إن الدرس الثمين الذي يمكن أن نخرج به من هذه القصة هو أننا إذا ملأنا السطل (أعمارنا) بالحصى أولا، أي بالأمور الأقل أهمية أو غير المهمة إطلاقا، وهذا ما يفعله للأسف أغلبنا، فإننا بذلك لن نترك فراغا في السطل للكرات الصغيرة بمختلف أحجامها، أي أننا لن نترك مساحة كافية من أعمارنا لإنجاز الأشياء المهمة والأشياء الأهم في حياتنا. ولكننا ـ في المقابل ـ إذا بدأنا بوضع الكرات أولا في السطل، والتزمنا بترتيب وضعها حسب الحجم، فإننا لا محالة سنجد فراغات داخل السطل يمكننا أن نملأها بالحصى، أي أننا إذا بدأنا بالأمور الأهم والأمور المهمة، فإننا لا محالة سنجد وقتا كافيا للأمور الأقل أهمية، أو حتى للأمور غير المهمة إطلاقا.
سنحاول في هذا المقال أن نقدم بعض النصائح المهمة، لمن أراد أن يستغل العام 1443 بشكل أمثل، وهذه النصائح موجهة ـ بشكل حصري ـ إلى كل أولئك الذين يبدؤون بوضع الكرات في السطل من قبل وضع الحصى، أما أولئك الذين يبدؤون بوضع الحصى في السطل، ولا يتركون مكانا للكرات، فهم غير معنيين إطلاقا بهذه النصائح.
قد يكون ضروريا ـ من قبل تقديم هذه النصائح ـ أن نذكر ببعض خصائص وميزات الوقت:
1ـ أن الوقت سريع الانقضاء، وتلك حقيقة يجب أن نتذكرها دائما. فمما لاشك فيه أن العام 1443 سينقضي بسرعة رهيبة، وإذا لم نشد الأحزمة ومن الآن، فإن هذا العام سيمر بنا مسرعا، كما مرت بنا أعوام وعقود من قبله، وسيتركنا ـ كما تركتنا تلك الأعوام والعقود ـ على قارعة أيامه الأخيرة، في حالة صدمة شديدة بسبب غياب الإنجاز.
2ـ ما مضى من الوقت لن يعود أبدا، وهذه الساعات القليلة التي مضت حتى الآن من العام 1443 لن تعود إلينا، لن تعود أبدا، حتى ولو ندمنا كثيرا على تضييعها، وحتى ولو تمنينا بصدق أن نستعيدها من أجل استغلالها فيما هو أهم.
3ـ الوقت هو أنفس ما نملك، وأيام العام 1443 هي أنفس ما سنملك في هذا العام. للأسف الكثير منا ينفق أغلى ما يملك فيما لا يفيد..أليس من الحماقة بمكان أن تنفق أغلى مورد تملكه في جمع الحصى ووضعه في السطل؟!
4ـ الوقت هو المورد الوحيد على هذه الأرض الذي وُزِّعَ بين الناس بالتساوي، فكل واحد منا يُمْنَحُ في كل يوم 24 ساعة، لا تزيد ولا تنقص بثانية واحدة. إننا سَنُمْنَحُ ـ إن كتبت لنا الحياة ـ نفس الأيام والأسابيع والأشهر خلال العام 1443، ولكن الفرق بيننا سيتمثل في أن بعضنا سيستغل هذه الأيام والأسابيع والأشهر بشكل جيد فيحقق بذلك المزيد من النجاح، وبعضنا الآخر سيضيع تلك الأيام والأسابيع والأشهر، وسينشغل فيها بوضع الحصى في السطل، فيخسر بذلك عام 1443 كما خسر من قبله سنين عددا.
إن الفرق بيننا سيتمثل في طريقة إدارتنا للوقت، أي في طريقة تعاملنا مع العام 1443، فبعضنا سيتمكن من السيطرة على هذا العام كما سيطر على أعوام من قبله، وسيستطيع بالتالي أن يروضه وأن يديره بشكل جيد وفعال، وبعضنا الآخر سيتحكم فيه العام 1443 وسيسيطر عليه، ليعيش أيامه ولياليه في فوضى عارمة خالية من أي إنجاز يذكر.
إن الإدارة الجيدة للوقت هي التي ستمكننا من السيطرة على الوقت وعلى أنفسنا، وسيتيح لنا ذلك أن نعمل بطريقة أفضل، لا بمشقة أكبر، كما يُخَيَّلُ للبعض، ومن أجل إدارة جيدة للعام 1443 فإليكم هذه النصائح الأربع:
النصيحة الأولى: حدد بداية ونهاية لكل مهمة أو عمل تريد إنجازه
من المهم جدا أن تحدد وقت بداية ونهاية لكل عمل أو مهمة تريد إنجازها، ولا تترك وقت تنفيذ المهام وتأدية الأعمال مفتوحا على طول. إن من الأخطاء الكبيرة التي يقع فيها أغلبنا هو أننا ننشغل بمهام وأعمال دون أن نحدد لها وقت بداية أو نهاية فنُضيع بذلك أوقاتا ثمينة دون أن نبدأ في تلك المهام ودون أن ننهيها، وبالتالي دون أن يكون بإمكاننا أن نتفرغ لمهام أخرى، فتقع المهمة على المهمة، وتتداخل المهام دون أن ننجز أيا من تلك المهام، فندخل بذلك في فوضى عارمة من التخبط ومن تشتيت الجهد. لا يعني تحديد وقت بداية ونهاية لكل عمل أن لا تكون هناك مرونة في تغيير ذلك الوقت إذا ما استوجبت الظروف ذلك. لا بأس بشيء قليل من المرونة، ولا بأس بترك هامش قصير لتعديل توقيت البداية والنهاية حسب الضرورة، ولكن ذلك الهامش يجب أن يظل دائما محدود المدة.
النصيحة الثانية: خصص أوقات ذروة عطائك للأولويات وللأهم ثم الأهم
إن لكل واحد منا أوقات ذروة وأوقات صفاء ذهني تكون فيها قدرته على التركيز أكبر، ويكون فيها أكثر نشاطا. كما أن لكل واحد منا أوقات خمول يكون فيها غير نشط، ويكون فيها حضوره الذهني وتركيزه في أدنى المستويات. إن ما يمكن أن ننجزه من أعمال في ساعة واحدة من ساعات أوقات الذروة قد لا نستطيع أن ننجزه في عدة ساعات من أوقات الخمول، ولذا فيجب أن نحرص دائما على أن نخصص أوقات الذروة للأولويات ولكل الأمور المهمة في حياتنا، على أن نترك أوقات الخمول لوضع الحصى في السطل، أي للأمور غير المهمة في حياتنا. وأوقات الذرة في الغالب هي الساعات الأولى من صباح كل يوم، وقد تكون في المساء أو الليل بالنسبة للبعض، فمثل هذه الساعات الثمينة يجب أن لا نخصصها لمتابعة الأفلام والمسلسلات ومباريات كرة القدم والدردشة في مواقع التواصل الاجتماعي، إنها أثمن وأنفس من أن تضيع في تلك الأمور، فعلى الطالب أن يخصصها للدراسة، وعلى العامل أن يخصصها للإنتاج وإعداد التقارير، وعلى الأستاذ أن يخصصها للتحضير لدرسه ، وعلى الباحث والمفكر والكاتب أن يخصصوها لإنتاجهم الفكري، وهم إن فعلوا ذلك فسيجدون لا محالة فراغات في بقية اليوم لمشاهدة التلفاز أو لمتابعة مباريات كرة القدم أو للدردشة في مواقع التواصل الاجتماعي.
النصيحة الثالثة: ركز لتربح المزيد من الوقت
إننا نبدو في زمننا هذا في غاية الانشغال، وعندما تسأل أي واحد منا عن العمل وعن الانشغالات يقول لك إن المهام والانشغالات كثيرة وإن الوقت لا يكفي لتأديتها.إن على من يقول بذلك أن يركز في عمله ليربح فائضا من الوقت، فعلى من يعمل مثلا لتسع ساعات في اليوم، ودون أن يتمكن من إنجاز ما كان يريد إنجازه أن يركز في عمله لست ساعات، وعندها سيجد بأنه قد أنجز في تلك الساعات الست ما كان عاجزا عن إنجازه في تسع ساعات. إن التركيز الجيد في العمل سيمكننا من ربح ساعات ثمينة ومن زيادة وقت الفراغ لمن يبحث عن وقت فراغ يخصصه للأمور الأقل أهمية.
النصيحة الرابعة : احذر لصوص الوقت
لقد تعودنا في هذه الحياة أن نحرس ممتلكاتنا وأموالنا، وأن لا نتركها عرضة للصوص، ولكننا لم نتعود ـ في المقابل ـ حراسة أغلى وأنفس ما نملك، أي أوقاتنا. إن وقتك ـ والذي هو أغلى وأنفس ما تملك ـ يحتاج هو أيضا لحراسة، فهناك لصوص كثر يتربصون به ويحاولون سرقته منك، فلا تسمح لهم بذلك. ومن لصوص الوقت المكالمات والدردشة في مواقع التواصل الاجتماعي ومتابعة التلفزيون لساعات طوال، ومنها الزيارات المفاجئة والاجتماعات العبثية التي لا تناقش شيئا مفيدا.
أخطر ما في لصوص الوقت هو أنهم لا يسرقون وقتك فقط، بل إنهم يسرقون معه تركيزك، ومن أجل استعادة تركيزك بعد كل عملية سرقة، فأنت بحاجة إلى وقت إضافي آخر حتى تستعيد من جديد تركيزك.
خلاصة القول هي أنك إذا حددت بداية ونهاية لكل عمل، وخصصت أوقات ذروة عطائك للأولويات، وركزت في عملك، وأقمت نظام حراسة جيد ضد لصوص الوقت، فلا شك أنك بذلك ستكسب التحدي، وستجعل من سنة 1443 سنة إنجاز وتميز. أما في حالة تهاونك بهذه النصائح فالراجح أنك ستضيع سنة 1443 كما ضيعت سنين وعقودا من قبلها.
إضاءة : لا تؤجل عمل الغد إلى الغد..
هذا المقال كنتُ قد نشرته مع بداية العام الميلادي 2021، وأعدتُ نشره اليوم مع بداية العام الهجري 1443، وهو يدخل في إطار سلسلة من المقالات في مجال تنمية وتطوير الذات، وعندما تكتمل كتابة هذه المقالات فسأجمعها وأنشرها في كتاب إن شاء الله.
حفظ الله موريتانيا...