يحيى بن بيبه
تطرقنا في مقالات سابقة, إلى بعض مظاهر الإخفاق في سياساتنا الزراعية, التي رمت بنا في ذيل قائمة دول غرب إفريقيا, من حيث الإنتاج الزراعي، في حين تشهد هذه الدول ما يمكن أن يرقى إلى مستوى الثورات الزراعية ,التي ساهمت في رفع مستوى نمو اقتصاداتها، حتى غدا بعضها من ضمن الاقتصادات الأسرع نموا في العالم ,كما هو الحال بالنسبة للسنغال وساحل العاج, مثلا.
اليوم نتطرق إلى سياسة "اللاسياسة" في التعامل مع السدود الزراعية, التي شيد الكثير منها بقروض, تتضاعف فوائدها, سنة بعد أخرى ,في حين تتزايد الغابات الحرجية, التي تزحف على الأراضي المهملة في هذه السدود, عاما بعد عام, سواء تلك الأراضي الواقعة تحت السدود, أو تلك الواقعة خلفها, وهو أمر يكشف بوضوح غياب أية استراتيجية اقتصادية ذات أسس عقلانية.
وفي البداية ,أشير إلى أن المياه في هذه السدود يمكن أن تروي نوعين من الأراضي:
1-الأراضي الواقعة خلف السدود.
وهذا النوع من الأراضي هو الوحيد المستغل في بلادنا,وإن كان هذا الاستغلال جزئيا ,وبدائيا, كما سنرى.
وتتم الزراعة في هذا النوع عادة مع تتبع انحسار مياه السد, أو بعد صرفها جزئيا أو كليا.
ولا تحظى المزروعات عادة بأية ريات تكميلية أو كلية، وإنما تعتمد النباتات على رطوبة الأرض وقت الزراعة.
2-الأراضي الواقعة تحت السدود.
وهذا النوع من الأراضي مهمل بشكل كامل في موريتانيا، برغم أنه المهيأ أكثر لإقامة زراعة مروية ,زهيدة التكلفة ,عالية المردودية.
ذلك أن هذا النوع من الأراضي يقع تحت مستوى مياه السدود, وهو ما يمكن من ريه بسهولة, بالاعتماد على الجاذبية (الري بالراحة) ,من دون الحاجة إلى محركات أو محروقات.
فلماذا لا نقيم زراعة مروية, تستغل هذه الأراضي المنخفضة, وتلك المياه التي نضطر لصرفها هدرا ,مع نهاية موسم الأمطار, ليتمكن المزارعون من الزراعة الشتوية ,في النوع الأول من الأراضي؟
مالكم كيف تحكمون؟
إن هذه المياه المهدورة ,في سدودنا الكبيرة والمتوسطة, ينبغي أن يتم استغلالها استغلالا مزدوجا:
أ-ضخها بمحركات لإقامة ري تكميلي للأراضي خلف السدود. هذا مع العلم بأن الزراعة المعتمدة على الري التكميلي هي الأعلى ربحية ,كما يقول أحد كبار الباحثين الزراعيين السوريين.
ب-صرفها بالسايفون لري المساحات تحت السدود.
وسيسمح هذا الإجراء البسيط, مع استخدام بذور سلالات محسنة ,ومعاملات فنية سليمة، سيسمح برفع مردودية هكتار الذرة الرفيعة (تقليت )مثلا, إلى نحو 8000 كلغ , بدلا من نحو 300 كلغ، يتم الحصول عليها بالطرق الزراعية البدائية الحالية.
وهذا يعني مضاعفة انتاج موريتانيا من هذا المحصول, ستا وعشرين مرة.
كما أن استخدام الري في السدود, مع المعاملات الفنية الأخرى، سيتيح إدخال الأصناف الهجينة من الذرة الشامية (مكه), التي يرتفع محصول الهكتار منها إلى نحو 11000 كلغ.
وما ينطبق على الذرة الرفيعة والذرة الشامية, ينطبق على باقي المحاصيل التقليدية, مثل: اللوبيا، الدخن، الفول السوداني. ومضاعفة مردودية الهكتار في الزراعة التقليدية عدة مرات, تعني مضاعفة مداخيل عشرات الآلاف من الأسر, الأكثر فقرا في بلادنا، وسحبها ,من تحت خط الفقر ,إلى الطبقة المتوسطة.
كما تعني إبطاء تدفق سيل الهجرة الجارف ,إلى المدن الكبيرة ,التي ضاقت بأهلها,وناءت قطاعات الخدمات فيها بحملها الثقيل .
ولا تقتصر مظاهر الهدر في الزراعة على السدود, في غياب الري بنوعيه التكميلي والكلي، وإنما تتعداه إلى سياسة فوضوية مخجلة, في مجال البذور المستخدمة.
فمن ذا يستطيع أن يتصور أن بلادنا، بعد ستة عقود من الاستقلال ,و"التنمية الزراعية", تحت حكومات مدنية وعسكرية, لا تستخدم في زراعتها على السدود، حتى اليوم، أية بذور محسنة، أو معروفة التراكيب الوراثية ,على الإطلاق؟
فكل ما يزرع في سدودنا، وفي كل زراعتنا المروية، هو بذور تقليدية، مجهولة التراكيب الوراثية، متدهورة الصفات المختلفة...
وبدلا من العمل على تطبيق سياسة عقلانية ,توفر بذور سلالات محسنة, بالتعاون مع مركز البحث الزراعي الوطني, ومؤسسات إنتاج البذور المحلية, تقوم وزارة الزراعة كل سنة بتخصيص أكثر من 200.000.000 أوقية قديمة, لشراء البذور السيئة المذكورة, عبر صفقة مع تاجر ,يشتريها بدوره من سوق مسجد المغرب.
ولا يمكن تفسير استمرار مثل هذه الطريقة في إنفاق المال العام ,لتدمير زراعتنا التقليدية, إلا بارتباطها بمصالح، من تحت الطاولة؛ لمسئولين على
مستويات مختلفة ,داخل الوزارة.
وبالإضافة إلى سوء البذور، ثمة سوء في التوزيع.فالبذور يترك توزيعها في أيدي الإدارات الإقليمية والمحلية، كل حسب مستوى نفوذه ,لينتهي بها المطاف بأيدي عمد، أمثلهم موقفا ,من يوزعها على "خاصيته" . ومنهم من لا يتورع عن بيعها,كما يقال.
ونضرب المثل على سوء التوزيع بأكبر سد في تكانت ,وثالث السدود الكبرى في موريتانيا,سد كلاكة, الذي تبلغ المساحة المغمورة منه 710 هكتارات، والذي لم تجف مياهه, منذ شيد قبل ستة عشر عاما, إلا ثلاث مرات.
فهذا السد ,بهذه الضخامة,لم تصله قط حبة واحدة من هذه البذور التقليدية, طوال السنوات الماضية.
أما السبب, فهو أن سكانه الثلاثة آلاف, من آدوابه, الذين لا يستطيعون ضربا في دروب السياسة ,ولا يخشى العمد صولتهم.
وإذا عرف السبب بطل العجب.
ولاشك أن تعزيز دور المركز الوطني للبحث الزراعي الذي يعتبر شبه ميت سريريا، بسبب ضآلة الامكانيات البشرية والمادية، يعتبر الخطوة الأولى الضرورية ,للعمل على تأمين بذور أصناف محسنة, للزراعة التقليدية.
فميزانية هذا المركز ,مدمجا فيه مركز مراقبة جودة البذور، رغم خطورة دورهما، لا تتجاوز نحو 210.000.000 أوقية قديمة, وهي ميزانية ,لا تمثل إلا نحو 7% من الميزانية السنوية لمركز البحث الزراعي السنغالي, البالغة نحو 4.500.000.000 افرنك غرب افريقي، وهو ما يشير, ضمن أمور أخرى ,إلى تخلفنا عن السنغال في مستوى الإرادة السياسية ,تجاه تحقيق السيادة الغذائية.
وبالإضافة إلى مسألتي الري والبذور المحسنة، فإن تأمين وسائل حرث الأرض, يعتبر خطوة لا غنى عنها للانتقال من مرحلة الزراعة البدائية, إلى مرحلة الزراعة المعقلنة.
وماذا يكلف الدولة تأمين جرار واحد ,متوسط القدرة ,لكل سد تزيد مساحته مثلا على مائتي هكتار؟
ذلك أن التربة المزروعة خلف سدودنا،على مدى العقود الماضية ,من دون أي حرث, أصبحت تعاني من طبقة صلبة صماء, تخنق الجذور وتعيق نمو المحصول ,كما هو معروف ,في مثل هذه الحالات ,عند المختصين.
ولن يبقى بعد ذلك من العوامل الأساسية, للنهوض بزراعتنا التقليدية ,إلا العمل على إدخال التسميد ,وتأمين الإرشاد الزراعي.
إن معالجة جملة هذه الاختلالات السابقة, لن يعني فقط توسعا رأسيا, يرفع الإنتاجية بشكل هائل، وإنما سيفتح المجال أيضا, أمام توسع أفقي يضاعف المساحات المزروعة, التي تواجه الدولة, على ما يبدو, صعوبات في إقناع المزارعين التقليديين بزيادتها، بسبب انعدام الحوافز, وضآلة العائد، وهو ما يظهر في توقعات وزارة الزراعة للمساحة المزروعة تقليديا هذا العام, والتي لا تتجاوز 180.000 هكتار، وهي نفس المساحة بالضبط ,التي كانت الوزارة تستهدفها العام الماضي.
ذلك أن الزراعة التقليدية, تعاني من ظاهرة هجرة الشباب عنها, للعمل في المدن, لضآلة مردودها, وهو ما يعني تراجع مساحتها ,مع تزايد الموت والضعف البدني بين كبار السن, الذين بقوا متشبثين بها, تحت سلطان العادة, ومحدودية الخيارات .
وفي الختام فإن استمرار السياسات الزراعية التي تهدر مواردنا الكبيرة على السدود, وتتجاهل الوضع البائس لعشرات الآلاف من أسرنا الزراعية التي تعاني الفاقة، هو أمر يتجاوز مرحلتي الإهمال والاستهتار إلى مستوى الجرائم الاقتصادية بحق هذا الشعب ,الغني بموارده, الفقير بسوء إدارة شئونه.