ندفع أحيانا ثمن أخطاء الآخرين باختيارنا ، وأحيانًا ندفعه تحت الإكراه ، إكراهات الحياة لاتنتهي ، نتجرعها كالشاي تارة وتارة كالسم دون أن يكون لنا في الغالب حق الإختيار.
إبان حملة الرئاسيات الأخيرة ظهر الرئيسان السابق واللاحق كالتوأمين تماما ، لا أحد من جامحي الخيال كان يمكن أن يتخيل ماحصل ، ولكن مياها كثيرة جرت تحت ذلك في الخفاء منذ ذلك الحين وإلى اليوم ؛ الماء ينحت الصخر كما يقال فما بالك بقلوب أهل اليوم من متأخري القرن الواحد والعشرين.
لقد دفع النظام الحالي ليس ثمن أخطائه فحسب ، بل وثمن أخطاء سلفه ، والتي ستكلفه فاتورتها الكثير.
إن من يرث متوفى مدينا بل مفلسا ، ويعلن لأول وهلة على رؤوس الأشهاد أنه ورث مليونيرا يكون قد جنى على نفسه ، وتحمل ما لا قِبل له به ولا طاقه.
يزيد ذلك الطين بلة إدارة متهالكة ، وفساد ينخر في كل مفصل من مفاصلها ، ومئات المفسدين يتبادلون الكراسي في الوظائف السامية في لعبة يبدو أنهم وحدهم من يتقنون أصولها.
لاأحد مهما كانت كفاءته ونظافة يده ونزاهة تفكيره ، وعلو كعبه في الوطنية يمكن أن يلج إلى هذا النادي ، إنها رهبانية لها طقوس خاصة ، تنوير بوذي ، أتباعه قلة ومعايير اختيارهم خاصة إلى أبعد الحدود.
أضف إلى ذلك أننا مع الأسف في بلد ليست فيه مشاريع تنموية تنطلق من واقعنا وتلامس احتياجاتنا ، إن استنساخ مشاريع الغير وتجاربهم هو اجترار للعبث والفشل وهدر للطاقات وتكريس للفساد .
لقد وصل الأمر عندنا منذ عهد بعيد حد إطلاق المشاريع والبرامج على ذوق المسؤولين الإداريين والسماسرة والطفيليين ، ممن يتقاسمون الكعكة ويبحثون في كل يوم عن وليمة جديدة ولتذهب مصلحة الوطن إلى الجحيم.
إنها جعجعة بغير طحين وسيزيفية لاتنتهي دفع البلد ثمنها غاليا ومازال يدفعه إلى اليوم.
إن من يتابع شاشتنا الصغيرة ويصغي لأمواج إذاعتنا وهي تحصي صباحا ومساء مشاريع لاحصر لها يخيل إليه أننا سندخل نادي العشرين في أقرب وقت، ولكن حين ينزل إلى الواقع يرى الحقيقة بوجهها القبيح الشاحب دون رتوش أو مساحيق ؛ يرى السفينة غارقة في أوحالها ودار ابن لقمان على حالها.
لقد مل هذا الشعب المسكين وتمت زراعة اليأس في القلوب بدل الأمل على مدى عقود ، اليأس لاينتج تنمية ولا استقرارا، اليأس ينتج مجتمعا مأزوما كحزمة بارود قابلة للإشتعال في أي لحظة ، تماس كهربائي بسيط في ليل بهيم ، تضارب المصالح بين لوبيات الدولة العميقة ، مظاهرات على الغلاء وتردي المعيشة تخرج عن السيطرة ، اجترار للثورات الملونة التي تدعمها قوة ما خارجية تبحث عن توسيع مساحة مصالحها ونفوذها ، احتكاك يسير بقوى التطرف التي غالبا ما تكون بيدقا من بيادق القوى العظمى.
لاحصر لحجم الأخطار الخارجية والداخلية والمحيطة ، ولا سبيل لتحصين المجتمعات إلا بتنمية حقيقية تلامس الواقع، وعدالة اجتماعية أساسها المساواة القانونية ، ونظام تعليم متطور ، وتطوير ركيزتي الأمن والدفاع.
لقد ضاعت فرص كثيرة ، ووقت ، وجهد ، وموارد ، ولكن أن تأتي متأخرا خير من أن لا تأتي ، والقرارات الشجاعة الصائبة تلامس الجراح وتضمدها ، وتزرع أملا في حالك الظروف ، تتغنى بها الشعوب وتروج لها ، والثورات الحقيقية أفضلها ما يتم بقناعة وفي صمت دون ضجيج أو تلميع.
بقلم محمد محمود إسلم عبد الله