د. رقية أحمد منيه
إن تنامي عمليات الاعتداء الجسدي على الأرواح بين فئات الشباب دون مراعاة لحرمة النفس البشرية، أو لعظمة المواقيت الزمانية، أو اعتبار لصون الكرامة الإنسانية، مؤذن بوجود خلل في المنظومة الأخلاقية للمجتمع..
لماذا أضحى الشباب ساقطا في دهاليز عالم الجريمة سائرا نحو طريق الضياع؟؛
لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة،
إنها أزمة أخلاق ورب الكعبة..
إن الأخلاق الحميدة ثياب قشيبة، تزين صاحبها بزينة ظاهرة وباطنة، تضبط السلوك وتدخل الطمأنينة على القلب، وتحجز عن الرذائل، وما أحسنها إذا مزجت بايمان صادق وفق النظر والتفكر..
إن الانشغال عن تنوير العقول وتبصير الأفكار وغرس القيم والأخلاق الفاضلة في نفوس الناشئة ؛ أنتج أجيالا تموج في لجة ليل معتم من الحيرة والانحراف..
ثم إن غياب آليات لصناعة القدوة المربي الصالح، وعدم القدرة على تمثل الأحكام والمقاصد واقعا في حياة أجيال اليوم؛ أعقب شعورا بوجود حرية مطلقة زائفة غير منضبطة بالوازع الديني أو القيمي..
إن التحلل من ربقة قيم الإسلام؛ من عدل وصدق ورحمة وتسامح؛ مخرج للأمة من دائرة الشهادة على الناس، ونكوص عن القيام بالوفاء بعهد الله وميثاقه؛
يقول الله سبحانه وتعالى:
﴿وَكَذَٰلِكَ جَعَلۡنَٰكُمۡ أُمَّةٗ وَسَطٗا لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِ وَيَكُونَ ٱلرَّسُولُ عَلَيۡكُمۡ شَهِيدٗا﴾.( سورة البقرة).
ويقول جل شأنه؛
﴿إِنَّ ٱللَّهَ يَأۡمُرُ بِٱلۡعَدۡلِ وَٱلۡإِحۡسَٰنِ وَإِيتَآيِٕ ذِي ٱلۡقُرۡبَىٰ وَيَنۡهَىٰ عَنِ ٱلۡفَحۡشَآءِ وَٱلۡمُنكَرِ وَٱلۡبَغۡيِۚ يَعِظُكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تَذَكَّرُونَ ٩٠ وَأَوۡفُواْ بِعَهۡدِ ٱللَّهِ إِذَا عَٰهَدتُّمۡ وَلَا تَنقُضُواْ ٱلۡأَيۡمَٰنَ بَعۡدَ تَوۡكِيدِهَا وَقَدۡ جَعَلۡتُمُ ٱللَّهَ عَلَيۡكُمۡ كَفِيلًاۚ إِنَّ ٱللَّهَ يَعۡلَمُ مَا تَفۡعَلُونَ ٩١﴾.( سورة النحل).
وعن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها: عن النبي صلى الله عليه وسلم:(( إنَّ من أكملِ المؤمنين إيمانًا أحسنُهم خلقًا وألطفُهم بأهله)).الترمذي (ت ٢٧٩)، سنن الترمذي ٢٦١٢.
إن أي مجتمع لا يسعى إلى بناء منظومة قيمه وأخلاقه مصيره إلى ذهاب، ولا يعني ذلك زوال الماهية الجسمية الفانية بفناء الدنيا بقدر ما يتعلق بجوهر الوجود وحقيقة المقصد الأساسي منه، ويضاف إلى ذلك الإسهام في تطور الحضارات الإنسانية القائمة على تمايز الهوية الثقافية للشعوب وخصوصية القيم الحضارية لكل أمة..
إن غرس قيم العدل والمساواة والرحمة واحترام الآخرين وصون الكرامة الإنسانية، والتمسك بالأخلاق الفاضلة من صدق الحديث والمعاملة والوفاء بالعهد وأداء الأمانة وحفظ اللسان؛ أوامر ربانية يتعبد الله تعالى بها:﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَكُونُواْ مَعَ ٱلصَّٰدِقِينَ ١١٩﴾.(سورة التوبة).
وحث عليها الإسلام وطلبها طلبا جازما يثاب فاعلها ويعاقب تاركها، ويلاحظ إدراجها ضمن الواجب؛ فالعدل واجب ولو مع العدو المخالف:﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ كُونُواْ قَوَّٰمِينَ لِلَّهِ شُهَدَآءَ بِٱلۡقِسۡطِۖ وَلَا يَجۡرِمَنَّكُمۡ شَنَـَٔانُ قَوۡمٍ عَلَىٰٓ أَلَّا تَعۡدِلُواْۚ ٱعۡدِلُواْ هُوَ أَقۡرَبُ لِلتَّقۡوَىٰۖ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَۚ إِنَّ ٱللَّهَ خَبِيرُۢبِمَا تَعۡمَلُونَ ٨﴾.(سورة المائدة).
والظلم محظور محرم بين العباد: عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه :(( عَنِ النبيِّ ﷺ، فِيما رَوى عَنِ اللهِ تَبارَكَ وَتَعالى أنَّهُ قالَ: يا عِبادِي إنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ على نَفْسِي، وَجَعَلْتُهُ بيْنَكُمْ مُحَرَّمًا، فلا تَظالَمُوا، يا عِبادِي كُلُّكُمْ ضالٌّ إلّا مَن هَدَيْتُهُ، فاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ، يا عِبادِي كُلُّكُمْ جائِعٌ، إلّا مَن أَطْعَمْتُهُ، فاسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمْكُمْ، يا عِبادِي كُلُّكُمْ عارٍ، إلّا مَن كَسَوْتُهُ، فاسْتَكْسُونِي أَكْسُكُمْ، يا عِبادِي إنَّكُمْ تُخْطِئُونَ باللَّيْلِ والنَّهارِ، وَأَنا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا، فاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ، يا عِبادِي … المزيد)).مسلم (ت ٢٦١)، صحيح مسلم ٢٥٧٧.
وعن الأشعث بن قيس رضي الله عنه: عن النبي صلى الله عليه وسلم:((مَن اقتطَعَ مالَ امرِئٍ مُسلِمٍ بغيرِ حَقٍّ لَقيَ اللهَ وهو عليه غَضبانُ، قال: فجاء الأشعَثُ بنُ قَيسٍ، فقال: ما يُحدِّثُكم أبو عبدِ الرَّحمنِ؟ قال: فحَدَّثْناه، قال: فيَّ كان هذا الحَديثُ؛ خاصَمتُ ابنَ عَمٍّ لي إلى رسولِ اللهِ ﷺ في بِئرٍ كانتْ لي في يدِه، فجَحَدَني، فقال رسولُ اللهِ ﷺ: بَيِّنتُكَ أنَّها بِئرُكَ، وإلّا فيَمينُه، قال: قُلتُ: يا رسولَ اللهِ، ما لي بَيِّنةٌ، وإنْ تَجعَلْها بيَمينِه تَذهَبْ بِئري؛ إنَّ خَصمي امرُؤٌ فاجرٌ، قال: فقال رسولُ اللهِ ﷺ: مَن اقتطَعَ مالَ امرِئٍ مُسلِمٍ بغيرِ حَقٍّ، لَقيَ اللهَ وهو عليه غَضبانُ، قال: وقَرَأَ رسولُ اللهِ ﷺ هذه الآيةَ: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ…} الآيةَ [آل عمران: ٧٧].)).تخريج المسند ٢١٨٤٨ • صحيح • أخرجه البخاري (٢٦٦٩، ٢٦٧٠)، ومسلم (١٣٨)، وأبو داود (٣٢٤٣)، والترمذي (١٢٦٩)، والنسائي في «السنن الكبرى» (١١٠٦٢) بنحوه، وابن ماجه (٢٣٢٣) مختصراً، وأحمد (٢١٨٤٨) واللفظ له.
والصدق مأمور به ولو على النفس والأقربين وصاحبه يؤجر، والكذب مذموم ولو مع نبل المقصد وصاحبه يأثم: عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(( إياكم والكذب؛ فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وإن الرجل ليكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابًا؛ وعليكم بًالصدق، فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وإن الرجل ليصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا)).أبو داود (ت ٢٧٥)، سنن أبي داود ٤٩٨٩.
وهكذا بقية القيم والأخلاق الحميدة؛ فإنما جاء الإسلام لإقامتها والمحافظة عليها وبناء الفرد والمجتمع على عقد جامع للمكارم..
إن الأمة الإسلامية تستمد قيمها وأخلاقها من الكتاب العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وسيرته العطرة؛ لأنه صلى الله عليه وسلم بلغ الرسالة ونصح الأمة فما ترك خيرا إلا ودل عليه وما ترك شرا إلا وحذر منه وقد أكمل الله دينه:﴿ٱلۡيَوۡمَ أَكۡمَلۡتُ لَكُمۡ دِينَكُمۡ وَأَتۡمَمۡتُ عَلَيۡكُمۡ نِعۡمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ ٱلۡإِسۡلَٰمَ دِينٗاۚ﴾.( سورة المائدة).
وقد سار الصحابة رضي الله عنهم أجمعين على منهاجه وسلكوا طريق إرشاد الأمة وأقتفى أثرهم التابعون ومن تبعهم بإحسان، ثم حمل القبس أئمة العلماء الأعلام وحملة العلم من السلف والخلف فتمسكوا بالقيم الفاضلة والأخلاق الحميدة والسلوك والتربية، وكانوا محل تقدير وتوقير واقتداء من قبل المجتمعات المسلمة، ولكن بعد الشقة بين الأوائل والأواخر والفجوة الواسعة بين حملة العلم وأصحاب الرأي والفكر السديد وأهل التربية وبين أبناء الأمة من الشباب والناشئين، وتغير الأحوال والسياقات الزمانية والانتقال إلى زمان تحكم الطفرة التكنولوجية واستحداث مؤثرات خارجية تتحكم في توجيه حياة الأفراد، وتغليب المصالح المادية، وتحول العالم إلى النظام الرأسمالي وتطبيقه في أبشع صوره في توحش صارخ يطغى فيه الجانب الاقتصادي الأناني ويستبعد جانب الأخلاق من حساباته، ويجعل القيم والأخلاق أمران ثانويان يمكن الاستغناء عنهما إلى حين، كل ذلك أدى إلى واقع جامد يعلي صوت الجفاء والتدابر والتنابز بالألقاب والاعتداء على الأعراض والأموال والحقوق..
إن الحل لمعضلة فساد القيم والأخلاق يتمثل في العودة إلى العصر الذهبي للأخلاق والسير على خطى الحبيب المصطفى والنبي المجتبى صلى الله عليه وسلم، والبحث في سيرته العطرة وتعليمها للنشإ، والتخلق بأخلاق القرآن الكريم المحمدية؛ فقد كان صلى الله عليه وسلم قرآنا يمشي على الأرض، والقيام بتطوير المناهج التعليمية والتربوية واستحداث مادة للأخلاق والقيم تركز على تدريس معاني القرآن الكريم والسيرة النبوية الشريفة بأسلوب جديد شيق يناسب الفئات العمرية المختلفة وحسب المستويات الدراسية وبأساليب معاصرة تجتذب المتلقي وتحرص على الإفادة قبل التلقين، وأقترح إقامة أنشطة دراسية للتشجيع على الأخلاق الفاضلة، وإعادة الاعتبار للمعلم والمربي والأستاذ وتوفير الظروف المناسبة لقيامه بوظيفته النبيلة.
وينبغي للمجتمع بكل مكوناته الحرص على إعادة صياغة العلاقات البينية والرجوع إلى فطرته السليمة وبعث قيم العدل والرحمة والتعاون والتكاتف والتسامح من جديد، ومحاولة تطويق الأزمة الأخلاقية المتنامية، والسعي نحو إعادة بناء القدوة المربي..
يقول أمير الشعراء أحمد شوقي:
والصدقُ أرفع ما اهتز الرجالُ لهُ
وخيرُ ما عوّدَ أبناً في الحياةِ أبُ
وَإِنَّمَا الأُمَمُ الأَخْلاقُ مَا بَقِيَتْ
فَإِنْ هُمُ ذَهَبَتْ أَخْلاقُهُمْ ذَهَبُوا
اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك.