باباه ولد التراد
عندما قرر حزب جبهة التحرير الجزائري في السبعينيات من القرن الماضي تدريس اللغة العربية لأبناء الجزائر المغتربين في فرنسا وافقت الحكومة الفرنسية على ذلك بشرط أن تتكفّل الدولة الجزائرية بالإنفاق على هذا التعليم، ونتيجة لذلك رغب بعض الأطفال الفرنسيين في تعلّم العربية مع زملائهم الجزائريين، فمنعهم مدراء المدارس، ولمّا رُفعت القضية إلى مجلس الوزراء الفرنسي أكّدت الحكومة هذا المنع ، وذكّرت بالقرار التربوي الفرنسي الذي يمنع تعليم اللغة الأجنبية للأطفال الفرنسيين في المرحلة الابتدائية من التعليم الفرنسي، باعتبار أنّ تعلّم الطفل الفرنسي في المرحلة الابتدائية للغة الأجنبية سيكون خطرا على شخصيته الفرنسية الناشئة.
كذلك فقد أقرت الحكومة الفرنسية في 5 مايو سنة 1994 قانون إلزام الفرنسية الذي يمنع أي مواطن فرنسى من استخدام ألفاظ أو عبارات أجنبية طالما أن هناك ألفاظا أو عبارات مماثلة.
وأكدت أن عقوبة هذا القانون تتضمن السجن أو الغرامة المالية.
ولما كان تعلم اللغة على هذا القدر من الأهمية جاهد المستعمر بما أوتي من قوة لفرض سيطرة لغوية على الشعوب التابعة له؛ لأن من يتنازل عن لغته يمكن أن يتنازل عن كل شيء، فيسهل استلابه.
ذلك أن اللغات حينما يغتالها المستعمر فإنها تذهب بإرث ثقافي وحضاري ضخم هو محصلة الخبرات العلمية والتقاليد الاجتماعية الخاصة بالبلد المستعمَر لغوياً.
مثال ذلك ما يحكى عن إيرلندا أنها استعادت استقلالها من انگلترا ، لكنها لم تستطع استعادة لغتها بما تحمل حيث لم يعد يتحدث بها في الوقت الحاضر إلا 2 % من السكان.
وقد انتبهت الحركة الصهيونية البغيضة منذ بدايتها في نهاية القرن الماضي : «أنّ هناك عناصر ثلاثة تقوم عليها الدعوة (الصهيونية)، أرض ولغة وسيادة ، ولذلك يقول د. حامد ربيع " كانت عملية إحياء اللغة العبرية تعني في ذهن الآباء الأوائل المحور الحقيقي للسياسة الداخلية والثقافية، بل إنّ هذا الهدف يتبلور من خلال إنشاء الجامعة العبرية في القدس قبل إنشاء الدولة ذاتها بأكثر من عشرين عاما، إنّ إحياء اللغة العبرية يصير إلغاءً لألفي عام من التشرّد، وخلق الرابطة المباشرة مع الأجداد الأوائل، ومن ثمّ التواصل مع الشعوب الأخرى خلال فترة المهجر".
كذلك فقد أدركت الكثير من الدول التي تحترم لغتها خطر العولمة اللغوية فأنشأت تكتلات ضخمة حيث كونت الدول الناطقة بالفرنسية الرابطة (الفرنكفونية)، وكونت الدول الناطقة بالإنجليزية منظمة (الكمنولث)، وكونت دول جنوب شرق آسيا رابطة (الأسيان) وأنشأت أمريكا مع كندا والمكسيك رابطة (النافتا).
وأصبحت الحروب اللغوية أشد ضراوة من الحروب العسكرية الظاهرة، وأقوى الأدلة في هذا المقام الحرب الصامتة الضروس الدائرة اليوم بين الإنجليزية والفرنسية .
لأن اللغة، في أي مجتمع، هي الواجهة الحاملة والحاضنة للملامح الأساسية للهوية، ومن خلال اللغة يتشكل معنى الانتصار والانكسار والمحبة والكراهية والألم والسرور، ومن منظورها تتحدد مفاهيم المباح والمحظور ، وانفتاح أبواب الفهم أو انغلاقه .
واعتمادا على اللغة تتكون رؤية شمولية للعالم تشمل الذات والآخر والواقع الطبيعي والاجتماعي ، كما أنه عن طريق اللغة يتم التواصل وتبادل المعلومات والأفكار والقيم والمبادئ والخبرات والمعتقدات والرموز، وتستخدم أساليب التفسير والتبرير وإنتاج وإعادة إنتاج المعاني والتصورات والمواقف والأحكام..
وعن طريق آليات التربية والإعداد الاجتماعي للأجيال الناشئة في فضاء ثقافي محدد ، يتم رفد الرصيد اللغوي بغية تشكيل نمط التفكير والوعي و الوجدان والذاكرة الفردية والجماعية، فاللغة فكر ناطق، والتفكير لغة صامتة.
لذلك لا ينبغي الفصل بين الإنسان ولغته الأم مطلقا،لأن الكلمات لا تتيح قول كل شيء، لكنها تظل مشحونة بمجموع ما لا يمكـن قولـه، وهـو مجمـوع مقترن بها . وإذا كان بالفعل في اللغـة علامة اعتـراف اجتماعي بين أفراد الجماعة الواحدة ، فإنه يتعين علينا المضي أبعد من ذلك لفهم ما هو جوهري في هذه العلاقة القائمة بين الإنسـان ولغتـه ، فالقوالب اللغوية التي توضع فيها الأفكار، والصور الكلامية التي تصاغ فيها المشاعر والعواطف لا تنفصل مطلقا عن مضمونها الفكري والعاطفي .
فاللغة من هذه المنطلقات نظام متكامل للقيم الفردية والجماعية والجمالية.
ومع ذلك لمْ تكن اللغة الوافدة والتعليم عموما، في التصور الاستعماري سببا لبلوغ غاية المعرفة بل إن ذلك كله سيبقى وسيلة ممنهجة لتحقيق الهيمنة على المجالات الحيوية من خلال محاولة القضاء على اللغة الأم وتفكيك النسيج الاجتماعي.
مما يؤدي للهزيمة النفسية وعقدة النقص لكي يتم تنفيذ الاغراض الاستعمارية من داخل البلد نفسه .
وهو ما لمسناه بالفعل هنا في بلادنا حيث أن الحكام في موريتانيا ( بعد أن شعروا بالنقص) اختاروا الفرنسية لغة للتدريس في جميع المراحل المختلفة وأصروا على هذا الاختيار، وهم بذلك يكرسون الاستعمار اللغوي بمحض إرادتهم ويقومون بإهدار الموارد المالية والقدرات البشرية بشكل فادح، لأن " قرار تعليم اللغات الأجنبية هو مسؤولية حكومية بالدرجة الأولى، يأخذ تمويله من المال العام، حيث تكون رواتب المدرّسين هي القسم الأكبر من هذه النفقات" تأكيدا لتمويل حروب اللغة إلى جانب فرنسا.
ونتيجة لذلك أصبح جل المواطنين الموريتانيين مهمشين في وطنهم ، وتم استبعادعلماء المحاضر من وظائف الدولة ، وفي نفس الوقت ينظر إليهم بازدراء من طرف الإدارة و القائمين عليها ،
لقد استهدفت السياسة الاستعمارية المتبعة بوضوح استئصال اللغة العربية في سبيل عملية مزدوجة تتمثل في إقصائها بيداغوجيا والحط من شأنها ثقافيا
ورغم أن اللغة الفرنسية لم تعد هي اللغة الرسمية، فإنها ظلت مع ذلك سائدة حتى الآن في القطاعات الإدارية انتهاكا للدستور ، وفي كافة مراحل التعليم ومتستخدَمةُ في المجالات الاقتصادية والمالية وفي جميع وسائل الإعلام
ونظـرا للمواقع التي تحتلها هذه اللغة فقد تم الإعتراف بها لغة للترقية الاجتماعية بدونها يصعب على المرء أن يشق طريقه في المجتمع ، حتى أن بعض أنصار التعريب قد كونوا أبناءهم في مدارس فرنكوفونية اضطرارا .