مساحة إعلانية

     

  

    

  

الفيس بوك

بلد على كف عفريت.../ محمد ولد الطالب ويس

لم نكن نتصور يوما أن البلد سيبلغ هذه المرحلة التي هو فيها اليوم من الوهن والضعف والتلاشي والتشرذم والانكسار، وكأنما هو في "يوم ترجف الراجفة تتبعها الرادفة" فالقلوب واجفة والأبصار خاشعة كأنما الناس رُدّتْ في الحافرة، رغم أننا نعرف أنه لن يكون على الأقل في هذه الظروف سمنا على عسل، وذلك لأنه منذ استقلاله أو على الأصح منذ تخلي  فرنسا عنه 

وهو تحكمه أنظمة افرانكفونية من دعاة المسخ والتفسخ والانبتات من الجذور، وبفعل سياسات هذه الأنظمة الكسيحة والتي رسمتها لها "السيدة" لا ينتظر من موريتانيا المسكينة المسلوبة والممسوخة حتى في اسمها أن تكون تلك الدولة التي يحصل عليها وعلى حالها السكوت كبقية العالم العربي الإسلامي المنهار ككل إلا أن بعض الشر أهون من بعض، غير أن ما نشهده في موريتانيا اليوم من ضجة ورجة واهتزاز وارتجاج وحوارات وسفارات وهجرات وتكتلات وانقباض وانكماش وهلع وجزع،  كل هذه الاهتزازات جعلت الناس تنظر إلى البلد وكأنه على كف عفريت، الماضي عبارة عن حلقات متتالية من الفشل، والحاضر جامد ومهتز في آن والحياة رتيبة لكن الأحداث والمفاجآت تتوالى، فأصبحت وكأنها في تتاليها جزء من رتابة الحياة وعبثها، والمستقبل ظلام دامس وغيوم مثقلة بالمجهول، كل شيء في هذا العهد عبء على النفس، لغز للفكر، ضباب للرؤية، فكان الحل هو السقوط الحر في موجة من الاحتجاجات المقبولة تارة والمرفوضة تارة، وموجة الاحتجاجات هذه كأنما هي "سوق التبتاب" لأن الإطار الذي تتنزل فيه هو الآخر من عجائب العهد، إنه حرية تسمح للمقبول والمرفوض بالعناق والسير جنبا إلى جنب، وكأن ما كان ينقصنا في نظر ولد عبد العزيز هو الحرية فكانت هي أكثر ما أعطانا وكانت هي أكثر ما تضررنا منه، فانطلق بسببها كل شيء كأنما كُشِف الغِطاء عن قرية نمل مفترس،! وانطلقت الكلمات جارحة، قارصة إذا اتجهت إلى الناس، ومدمية للقلوب إذا اتجهت إلى الدين، وفي كل الأحوال لا تبشر بخير، لأنها حرية عمياء وليست هي ما كان يبحث عنه البلد بهذا الشكل المقيت، واسمح لنا يا سيادة الرئيس التطاول عليك هنا، فما كان ذلك ليكون لولا حرية الفوضى التي منحتنا، والتي ـ بالتأكيد ـ منحتنا إياها ليس من أجل عيونها النجلاء ذات الطرف الناعس الحيي، بل من أجل عيونها الزرقاء ذات النظر الحاد والطرف الذي لا يُغض، وليس ذلك ـ والأمر مؤكد ـ إلا لتتقرب بها إلى عشاق تلك العيون ليمنحوك شرعية أنت تفتقدها وتحتاجها لتنفيذ مخططاتك، فلا يهمك لو أن تلك الحرية العمياء الحمقاء أكلت قيم الأمة وأخلاقها وهددت أمن المجتمع وتماسكه بما أفْرَزَتْهُ من حَركات وحِراكات مخالفة صراحة لنص الدستور والقانون الذي أقسمت على صيانته، كما لا يهمك لو أن تلك الحرية اقتاتت من لحمك ومن لحوم المحيطين بك، وعلَّمَتِ الناس التطاول على الرموز التي ينبغي احترامها، وما ذاك كذلك إلا لتوطيد سياسة التمييع التي تنتهجا سيادتك حتى لا يبقى كبيرًا ولا مهابا ولا مقدسا في هذا الوطن، المهم أنه لا يهمك لو أن الحرية الحولاء هذه أضرت بالوطن وقلبت قِيّمه رأسا على عقب، ما يهم هو أن تمنحك أنت شرعية ترتع تحت مظلتها في الوطن تنهبه ليلا ونهارا، سرا وجهارا، تساعدك في ذلك الأسرة الكريمة والقرابة المقربة والعصابة المرتزقة، حتى إذا ما استحال الوطن عظمة بيضاء كأنما خلَّفتْها يد مصاب بداء القرَم، رميتها لأحد الكلاب الباسطة أذرعها في الانتظار، حينها لن تتضرر أنت طبعا من بياض العظمة لأن حُمْرَةَ اللحم وبياض الشحم سيكونان في انتظارك في المغرب أو دبي أو فرنسا، وفي أسوإ الأحوال تلتحق بِوَلِيِّ نعمتك في قطر، ويبقى الوطن " العظمة البيضاء " في حريق الحرية التي بيضته أنت بها والتي ستسوده هي والكلب الفائز بها بعدك، ويلطف الله بالشعب الضعيف المغلوب على أمره الذي تتعاوره منذ سبع وثلاثين سنة سنابك الانقلابات، والذي يعيش ثلاثة أرباعه تحت خط الفقر، ويعاني شبابه من البطالة و الإحباط والتهميش، وتسكنه الحُمّيات والأمراض الوبائية، وتساكنه المستنقعات والبعوض والحشرات، وتعاوده لا تفتر عنه الظلمات، رغم أن بلد هذا الشعب المنكوب ـ وذلك حسب الناكبين طبعا ـ أحسن حالا من البلدان المجاورة والتي لا يدرس طلابها في جامعاته، ولا يتداوى مرضاها في مستشفياته، ولا ترسل فحوص أمراضها الغامضة إلى مختبراته، وهذه البلدان لا يعيش ثلاثة أرباع سكانها تحت خط الفقر، ولا تساكن سكانها المستنقعات، ولا تعاودهم الظلمات، رغم أن شواطئهم ليست غنية بالأسماك غنى شاطئ البلد الذي هو "أحسن" منهم حالا، وأراضيهم ليست غنية بالمعادن غنى أرض البلد الذي هو "أحسن" منهم حالا، وسكانهم ليسوا أكثر من سكان البلد الذي هو "أحسن" منهم حالا، ورؤساؤهم ليسوا أكبر أدمغة من رؤساء البلد الذي هو "أحسن" منهم حالا وليسوا بالتأكيد أكثر رواتبا، ف " بلدنا أحسن حالا من الدول المجاورة " جملة ورثها هذا النظام على النظام الذي انقلب عليه وهي تتكون من مبتدإ مضاف للانقلابات وخبرٍ كاذب، وهي بصفة مجملة لا محل لها من الإعراب في نحو الواقع، وإن كان ولابد من تصنيفها فإنها لا يمكن أن تصنف  إلا إلى جانب " شَرَفِ صاحب ول ابن ول احميده "، "أَلاّ شَرَفْ باط امْسَكّمْ  مَنْ كَرَماتْ الصّالِحينْ "وحتى أسلم من الكتابة على بياض أو من إلقاء الكلام على عواهنه  كما يُقال، فإنني سأقول:

أولا الحرية التي منح ولد عبد العزيز غداة إطلالته الآثمة ليست حرية راشدة وإنما هي "فوضى خلاقة" كما يقول الغرب لما يحدث في العالم العربي اليوم، وذلك لأن ولد عبد العزيز منحها وهو في حالة ضعف، وذلك الضعف على مستويين، المستوى الداخلي وقد تجاوزه بعد خديعته لولد داداه أو انخداع ولد داداه به الذي اعترف به ك "مصحح" لا منقلب، أما المستوى الثاني فهو المستوى الخارجي والذي يُهَدِّئُه إلى حد ما اعتراف ولد داداه بالمنقلب لأن الغرب ينظر إلى ولد داداه كزعيم معارضة له مصداقية شعبية وعمر في مناطحة الأنظمة الاستبدادية لا يستهان به، إلا أن ذلك لم يعتمد عليه ولد عبد العزيز كثيرا ربما لأنه يعرف أنه سيعض ولد داداه في الظهر، فالتفت إلى المستوى الخارجي واشترى شرعيته من المنظومة الدولية بحرية الفوضى التي منح للبلد، وقد يقول قائل: كيف تبيع المنظومة الدولية  "الغرب" شرعيةً لرجل بثمن لا تقبضه؟ جميل، الغرب لا يريد المال، بل الذي يريده الغرب والذي هو أحب إليه من حمر النعم كما يُقال هو ما ستُخلِّفه تلك الحرية أو على الأصح تلك الفوضى في شعب لم ينضج بعد للتعاطي مع الحرية الراشدة، خصوصا وأنه شعب مليء بالطوائف والأعراق والشرائح والفقر والتظلمات، ومع ذلك يفقد مناعته منذ خمس وخمسين سنة بفعل سياسات أنظمة "المرتنة" الفاشلة والتي ورثت تسيير البلد على المستعمر بالشكل الذي أعده هو وتتولى هي تنفيذه في السر والعلن بحذافره إلى يومنا هذا، إذا نتيجة الحرية الفوضوية في شعب بهذه المواصفات وعلى هذه الدرجة من ضعف المناعة أحب إلى الغرب من سمك الشاطئ ومن حديد "كديت اجل" ومن ذهب تازيازت ونحاس اكجوجت رغم أن ذلك إما له أو لأذنابه الذين ابتلى الله بهم هذا الوطن منذ وُلِد. 
ثانيا المنظمات التي أفرزتها هذه الحرية، أليست مخالفة لنص الدستور والقانون الذي ينص على أن كل دعوة ذات طابع فئوي أو عرقي أو عنصري يعاقب عليها القانون،؟ أليس حراك لمعلمين حراكا طائفيا عنصريا؟ أليس حراك لحراطين حراكا طائفيا عنصريا؟ أليس حراك الزنوج حراكا طائفيا انفصاليا عنصريا؟ أليس حراك ولد احمد عيش حراكا طائفيا عنصريا جاء ردة فعل على هذه الحراكات؟ لماذا لا يعاقب القانون هذه الحِراكات ويحلها ويقف لها بالمرصاد؟ لماذا يُسمح لها بممارسة نشاطاتها وهي في الأصل ليست مرخصة لأنها ضد القانون؟ السبب بسيط وهو إما أن النظام ضعيف لأنه نظام منقلب فاقد للشرعية التي تمنحه القوة على المحافظة على القانون، وبالتالي يتذرع بالحرية والديمقراطية، وكأن الحرية والديمقراطية تعنيان الفوضى والتطاول على كل شيئ،! وإما أن النظام فعلا نظام قوي بشرعيتيْه الماضيتين: شرعية الباء الطائرة والشرعية البرامية وبالتالي فهو قادر على حماية الدستور والقانون والوقوف بوجه كل الدعوات المسعورة، إلا أنه لا يفعل ذلك بل يتفرج على الوطن وهو ينهار ويسكت كثمن لشرعيته التي اشترى من أسياده ذات يوم والذين لن يقبلوا إلا بتمام الصفقة، وهم قادرون على أن يخلقوا له كل المشاكل ويجروه حتى إلى محاكم لاهاي وغيرها إن هو فكر في نقض الصفقة بالتضييق مثلا على هذه المنظمات والوقوف بحزم أمام نشاطاتها المخالفة للقانون، المدمرة للوطن كنسيج اجتماعي هش يحتاج لمن يعمل على تماسكة لا من يعمل على تمزيقه، إن الوطن بحاجة لرجل قوي يقف بحزم وبصرامة وبقوة بوجه كل دعوة من شأنها أن تمزق المجتمع وتزيد الهوة بين مكوناته وتمس مقدساته، وبالطبع ليس ذلك بالطغيان والجبروت والسجون، بل بالسياسات التنموية البصيرة والعدالة الاجتماعية والتي من شأنها أن تشكل قالبا ينصهر فيه لمعلم والحرطاني والزنجي والبيظان ليخرج خلقا جديدا لا ولاء له إلا للوطن، وليس والله ولد عبد العزيز ـ الذي أنتج "برام" و"حراك لمعلمين" و"حراك لحراطين" وجاء ب"أفلام" وانتهج سياسات عرجاء  لا تعمل على تضييق الهوة بين الأغنياء والفقراء، ولا تحقق العدالة الاجتماعية ـ ليس هو والله ذلك الرجل.
أخيرا هذه الحرية والتي بلغ عمرها اليوم سبع سنين لم يجن منها الوطن شيئا، كلام، مجرد كلام لا يقدم ولا يؤخر، كلام معارضة أو كلام موالاة، لكن في المقابل يمكن أن يقال إنهن سبع عجاف أكلن كل شيء: قيم الأمة، مقدسات الأمة، أكلن الوطن برمته، حوَّلن أمواله إلى الخارج بالطرق النابلسية الفجة، وما بقي منها كدَّسْته في منظمات يلعب بها الأطفال على شارع عزيز، وتُحمل بها العرائس على أكتاف العبيد في جنينات القصر في عرس بهيج على الطريقة الملكية ينكئ الجراح ويستدعي شهوة الجارة في الستينات ويحلو معه ترديد العبارة " موريتان ادْيالْنَ ".هل هي النهاية؟ 

ثلاثاء, 27/10/2015 - 15:17