الأستاذ / محمدو بن البار
كلمة الإصلاح هذه المرة تريد أن تعلق على هذه التغييرات العامة التي أجرتها الحكومة في الإدارة الإقليمية. هذه التغييرات لا شك أنها ليست صادرة من قبل وزارة الداخلية وحدها - أولا - لأن الوزير معين حديثا، وأيضا فإن مثـل هذه التغييرات العامة التي أخرجت جميع الإداريين من انواكشوط لا بد أن تكون نظرية مدروسة من طرف الحكومة قبل القيام بها.
"وحسنا فعلت الحكومة" إلا أنه كان من واجبها، أو من إتمام عمل مقصدها وهو الالتفات على الإدارة الإقليمية (إذا كان ذلك هو المقصد) أن تقوم قبل هذا التغيير بإعادة صياغة جميع القوانين المتعلقة بصلاحيات الإدارة الإقليمية وتعطيها لها.
فالإدارات الإقـليمية في العالم هي كل شيء في الدولة بمعنى أنها تغطي جميع النشاط المتعلق بحياة المواطن في الدولة فهي نائبة عن رئيس الدولة مباشرة وبذلك تكون نائبة عن جميع الوزارات.
فالوالي يمثـل رئيس الدولة مباشرة ورئيس الدولة هو الذي يتحمل حفظ أرواح وممتلكات المواطنين بما في هذه الكلمة من معنى وما يتطلب من إجراءات يقظة على مستوى كافة مصالح الدولة إلا أن استـثـناء الإدارة الإقليمية في موريتانيا في السنين الأخيرة كان واردا.
فهي الإدارة التي كانت حاضرة غائبة: حاضرة بمسمياتها، غائبة عن مسؤوليتها في الدولة وسوف نختطف سريعا أسباب ذلك في الحقائق التالية:
فمن المعلوم أن موريتانيا استـقـلت سنة 1960 دون أن تكون دولة عندها مقومات الدولة بما فيها الإدارة الإقليمية إلا أن الرجال الذين استلموا الحكم آنذاك كانوا رجالا مدنيين حضريين قانونيين أذكياء، وأصدروا آنذاك قوانين مفصلة لتسـيـير الإدارة الإقليمية وجعلوها صورة طبق الأصل لمثيلاتها في أقدم إدارة إقليمية حضرية في العالم، تلك القوانين جعلت الوالي هو المسؤول وحده في جميع المصالح بل كل حركة تصدر داخل حدود ولايته هو المسؤول عنها والحاكم ورئيس المركز عندهما نفس الصلاحيات كل فيما يخصه حسب مسؤوليته بمعنى أنهم يمثـلون رئيس الدولة في مناطقهم بإشراف الوالي.
وأي مصلحة في الولاية سواء كانت عسكرية أو مدنية هي تابعة في نشاطها فوق الولاية للوالي. فمثلا الوالي كان هو المسؤول عن الأمن والتعليم والصحة والتنمية إلى آخر جميع المصالح، فهو الذي يسأل ويفـتـش يوميا في سير كل مصلحة بولايته وماذا يعرقل سيرها الطبيعي.
وعندما يعثـر على أي عرقـلة يتصل مباشرة بالجهات المركزية لإزالة تلك العراقيل ولا بد من الإزالة الفورية لذلك.
فرئاسة كل مصلحة موجودة بجنبها تتمثـل في الوالي والحاكم ورئيس المركز وهكذا، أما الإدارات المركزية في انواكشوط فهي مسؤولة فقط عن التسيـير الداخلي لمصالحها على مستواها وذلك بتوفير الخدمات أو التسيـير الإداري الآخر مثل الاكتتاب أو الترقية إلى آخره
هذه الوضعية كانت موريتانيا تسيـر فيها سيرا مطردا من النمو والانسجام وكأنها تأسست فيها إدارة قديمة قدم الإدارات الحضرية.
وقد عاشت موريتانيا هذه الحياة الثـقافية الإدارية الحضرية حتى جاء الانقلاب 1978 وتغيرت الإدارة من مدنية إلى عسكرية، إلا أننا مكثـنا سنين قليلة بعد ذلك نسير شبه ما كنا عليه قـبل أن تسيطر القبيلة وتتدخل في التسيـير الإداري العسكري.
وبما أن الإدارة العسكرية أصلا أكثر تسيـيرها لإداراتها الخاصة بها هو بتعاميم تصدرها دائما للتـنفيذ لأنها أسرع كتابة وأهون تنـفيذا فقد عملت تـلـك التعميمات عملها لتحل دون أن يشعر المصدرين لها محل الدستور والقوانين المصادق عليها والمكتوبة في الجريدة الرسمية، وبعد العمل بهذه التعاميم من طرف الإداريـين العسكريـين أصبح الوزراء المدنيون يحذون حذو العسكريـين بإصدار هذه التعاميم، وأصبحت الإدارات الجهوية وكأنها تابعة مباشرة لإداراتها المركزية، وأصبحت الإدارة الإقليمية خاوية على عروشها في ولايتها.
فأنشئت الإدارات الصحية ومناديب التنمية والمدراء الجهويـين للتعليم وكرست جميع الإمكانيات تحت يد هؤلاء المسؤولين المرتبطين ارتباطا وثيقـا بإداراتهم المركزية التي تتحكم في حياتهم المادية الوظيفية، وولى الجميع ظهره للإدارة الإقليمية.
ونفس الشيء وقع في الإدارات العسكرية وشبه العسكرية فأصبح الجميع تابع لإدارته المركزية تتحكم في عمله في الولاية.
فأصبح الوالي لا يستطيع أن يسأل لماذا الطبيب المقـتدر والأستاذ والمعلم والمفوض إلى آخر اللائحة حولوا عن عملهم وأصبح إذن التغييبات يأتي من المصالح المركزية.
هذه الوضعية عاشت بها موريتانيا حتى سنة 1992 سنة بداية الديمقراطية الفوضوية، وبعد تلك السنة نزلت الإدارة الإقليمية إلى الحضيض وسلمت موريتانيا فوق طبق من الفوضى إلى الجهة الناخبة من نواب وشيوخ وعمد وأعطيت الأوامر ليست للولاة والحكام فحسب بل للوزراء أن يكونوا تحت طلب أي منتخب جاء يريد حاجة في الدولة فعندئذ عمد هؤلاء المنتخبين إلى إفراغ الدولة من مضمونها فكثر ما يسمى بالإفراغ من الوظيفة وبقاء الراتب ولم يسلم منه مدني ولا عسكري ولا فني... الخ.
وعندما تـفشت ظاهرة هذه الفوضى رجعت الإدارة الإقليمية على نفسها لتضع يدها على ما استطاعت من ممتلكات الدولة واستسلمت لخروج الإدارات المحلية من تحت يدها لصالح إدارتها المركزية.
فمثلا بعض الولاة يجد أمامه تخطيطا للولاية لم ينتفع منه فيأمر بإعادة تخطيط لتقليص أرقام القطع الأرضية فيبقي فائض من الأرقام ليتصرف فيه وهكذا في جميع ممتلكات الدولة.
وقبل الانتهاء من هذه التشخيص الموجز جدا فسوف نعطي مثالا للإدارة الإقليمية القديمة مثالا يفهم منه ما آلت إليه الأمور بعد ذلك.
ففي زمن الإدارة الإقليمية الموريتانية الذهبية كان بعض الولاة قبل أن يجلس في مكتبه الثامنة صباحا يمر على الإدارات هل أصحابها حضروا في الوقت المناسب لحضور العمال وكان المواطن لا يشتري لحما من السوق إلا وخاتم البيطرة موجود عليه، وكل أسبوع يجتمع الوالي مع جميع المسؤولين لتدارس الوضع كل فيما يخصه.
وكان الوالي من جهته والحاكم من جهته كل يوم يتلقون تقريرا من مدير الأمن الجهوي والمفوض كل فيما يخصه ليس لعملهم الرئيسي الفعلي الرسمي الخاص بهم بل التـقرير يكون شاملا لما طرأ من أي نشاط يهم الدولة في المدينة سواء وقع ظاهرا أو باطنا إلى آخره.
وعلى القارئ الكريم أن يقارن هذا وما بعـد ذلك من هذه الحالة الفوضوية التي أصبحت فيها موريتانيا شبه الخيمة التي تتداعى من جميع جوانبها لتسقط على ساكنتها دون أن يشـعروا.
وعندما جاء هذا الحكم الجديد الذي ما زال موجودا وأسرعنا إلى الوصول إليه لأن ما بينه وبين الفوضى السابقة كانت المدة قصيرة والوضعية مضطربة.
فعندما جاء هذا الحكم لا شك أنه جاء يعرف عمق هذه الفوضوية التي اختلط فيها المسؤول الكبير مع البوابين في فعل الفوضى..الخ، ولا شك أنه بدأ يريد إصلاحها وبدأ بإصلاح بعضها ولكنه توقف عنده وحتى الآن وهو يقرب من آخر مأموريته الأخيرة وما زال لم يتجاوز ذلك القطاع الذي أصلح كثيرا منه ألا وهو قطاع المالية الذي اتخذ فيه إجراءات شجاعة وحاسمة ولا بد منها، فتوقيفه لاستئـجار المنازل الذي كان كارثة حمراء على الدولة ووضع يده على المشاريع والضرائب والمعادن إلى آخر كل مصدر من مصادر المال تمتـلكه الدولة كانت إجراءات إصلاحية ضرورية.
وكان يقول في أول مـأموريته إن خزائن الدولة ملآ، وأنها ستصرف على الشعب وفعـلا مـلأها من الموارد الذاتية للدولة أما ما بعد ذلك فلا يعرفه إلا المفتشون.
وهنا أرجوا أن لا يقول معـترض أنها لم تصرف على الشعب فأنا تكلمت على ما فعل هذا الحكم وهو ما يجب أن يكون في هذا القطاع وهو وضعه لأموال الدولة تحت رعاية الدولة وتحت رعايته هو شخصيا لأنه المسؤول عن الحياة الممتازة لهذه الدولة أما صرف هذه الأموال فلا علم به إلا لمن يتابع ذلك.
أما غير هذا القطاع من الدولة فإن المتتبع لأفعال هذا الحكم سيجد أن الفوضى التي كانت قبله ربما زادت في القطاعات الأخرى ولا سيما الإدارة الإقليمية التي هي محل كلمة الإصلاح هذه.
فعندما تذكر الإدارة الإقليمية فأول ما يتبادر إلى المواطن هو مسؤوليتها عن الأمن الداخلي وهذه المسؤولية لا يمكن أن تحققها الإدارة الإقليمية إلا بما تحققها به مثيلاتها في الدول الأخرى أما الآن في موريتانيا (كما نعلم جميعا) فكأن الأمن في جميع جوانبه الأمنية والسياسية والاقتصادية لا يعني الإدارة الإقليمية.
فالدول الأخرى جميعا عندها قطاعات عسكرية أو شبه عسكرية وهي التي تتولى حفظ الأرواح والممتـلكات في الدولة بل حفظ التنمية بجميع فروعها الإنسانية والاقتصادية والأخلاقية... الخ تحت رئاسة الإدارة الإقليمية.
وهذه القطاعات عندها مسمياتها واختصاصاتها وثـقافـتها وإجراءاتها لتسيـير هذه المهام كل في ما يخصه بالإشراف المباشر للإدارة الإقليمية النائبة مباشرة عن رئيس الجمهورية المسؤول عن كل هذا.
فماذا فعـل الحكم في هذا الشأن؟ قام هذا الحكم فجعل الأمر أنفا أي في بداية إنشاء الدولة إنشاء لم يسبق له أصلا لا في الداخل ولا في الخارج.
فأخذ القطاعات العسكرية وشبه العسكرية وغض النظر عن جميع صلاحيات كل واحدة منها المقنـنة بالقوانين الرسمية وطبخ الصلاحيات في مرجل واحد وضخها في المدن لتقوم كل هيئة بالتعليمات الخاصة التي ستكون هي صلاحياتها ظنا منه أن جميع من يلبس البذلة العسكرية يستطيع أن يقوم مقام الآخر وحدد هو ذلك بمن رضي عنهم ورضوا عنه بدون معرفة السبب وبذلك تبخرت علاقة الجميع بالإدارة الإقليمية ولم تعلم أين أعوانها التي كانت تسيـر بهم مسؤوليتها، فعـندئذ عمدت الإدارة الإقليمية (ولم يعرف هل هو اختيار منها أو اختيــر لها) فوضعت يدها على فرقة خاصة من الحرس مع كل إداري تقوم هي وهو بتسيـير ما تبقي لهم من صلاحيات الإدارة الإقليمية وأصبح ذلك محدودا جدا بل يكاد ينحصر في ضبط النزاعات في القطع الأرضية وإذا استطاعت الفرقة أن تكون هي الشرطة القضائية وهي القاضي وهي وهي فنعما هي.
وإذا كانت الدولة تريد حقيقة هذا فـلتعد الآن حكام نواكشوط إلى أماكنهم ويقوم الرئيس ووزير الداخلية ويصحبهم الحاكم في أي مقاطعة من انواكشوط ليرو كأن هذه المقاطعة لا تخضع لأي سلطة فمن أراد أن يغلق الطريق فليغلقها ومن أراد أن يبيع بأي سعر أو في أي مكان فليفعل...الخ بمعنى أن الحاكم والوالي ينفذان قوله تعالى [قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم].
فجميع المصالح في الولاية والمقاطعة مثـل التعـليم والصحة والتنمية الريفية...الخ فلا خبـر عنهم إلا من أفواه القائمين عليها.
فهذه الدولة كانت عـندها قطاعات عسكرية وشبه عسكرية وكل عندها اختصاصاتها وتقوم بمهامها على أحسن وجه عندما كانت هذه الدولة مثـل الدول الأخرى تـتـبع في عملها ما صادقت عليه من القوانين وعندما يعـجز أي قطاع عن مهمته لنقص عدده أو لصعوبة المهمة ترسل له تعزيزات من القطاع الآخر سواء كانت عسكرية أو شبه عسكرية ولكنها تكون تحت قيادة القطاع صاحب الاختصاص بدون أي غضاضة لأن داخل الدولة لا أفضلية لقطاع عن قطاع إلا بأداء مهمته على أحسن أداء بعد توفير الإمكانيات لذلك.
وعلى كل حال إذا كانت هذه التحويلات العامة في الإدارة الإقليمية هو التفات من الدولة لهذه الهيئة التي هي عصارة الدولة حقيقة لقيامها بمهامها المتعلقة بمشاكل الشعب كما ينبغي لتوفـر للدولة كثيرا من الأمن والاستـقرار، فإن على الدولة في اجتماعها القادم أن تكرس جهودها في إحياء قوانين الإدارة الإقليمية ومسؤوليتها عن كل قطاع على حدة في الولاية والمقاطعة والمركز سواء كان مدنيا أو عسكريا أو شبه عسكري ومتابعة هذه القوانين حتى يتم تـنـفيذها، وإذا كانت هذه التحويلات روتـينية فقط والإدارة الإقليمية ما زالت لا ترى من المسؤولية إلا تسيـيرها هي وفرقة الحرس لما تبقي لهم من مشاكل هؤلاء المواطنين، فلا شك أن مجرد قراءة المذيع للتحويلات وما أنفق في ذلك من الكهرباء وما سينفق عليه من التذاكر إذا كانت ما زالت تتحملها إذا كان هذا هو المقصد فإنا لله وإنا إليه راجعون.