مساحة إعلانية

     

  

    

  

الفيس بوك

ذكريات متدرب في الوكالة.

تسكن كلّ موريتاني عقدة حقيقية من الإدارة، أيّا كانت تلك الإدارة، ويصاب أي شخص هنا بكوابيس مرعبة عندما يتوجب عليه اللجوء إلى مصلحة حكومية ما لاستصدار أبسط وثيقة إدارية. يرتبط الأمر بعقلية موروثة عن الاستعمار مفادها أن المواطن كائن دون البشر، أي أنه ليس بشريا تماما، ولذلك يتم التعامل معه بكثير من الحزم والشدة بل والازدراء أحيانا كثيرة.

 

***

 

 كان الأوروبيون الأوائل الذين قدموا إلى إفريقيا يخضعون العبيد الذي يجلبونهم إلى أروبا إلى تمارين شاقة في الأكل بالملاعق وارتداء اللباس الأوروبي، وطريقة المشي والجلوس على الكراسي، وغيرها من مراحل هذا التقييم الذي يقرر السيد في نهايته ما إذا كان العبد يستحق أن يكون "بشريا" وأن يخدم في المنزل أم أنه لا يستطيع العمل إلا في الحقول. هذه هي العقلية التي حكم بها الأوروبيون وورثتها عنهم البيروقراطية الإدارية وتوارثتها أجيال "الإدارة" في بلادنا التي بقيت استعمارية الروح، وإن التحفت بلباس الوطن.

هذا الحال خلق جوا من انعدام الاحترام المتبادل، وفقدان الثقة بين المواطن والإدارة، أو لنقل بين المواطن والحكومة بصورة عامة، ولم تزد أنظمة الحكم المتعاقبة إلا في تكريس هذا النمط البيروقراطي ذي الروح الاستعمارية والاستكبارية المتأصلة التي تجعل كل الشعب مواطنين من درجة ثانية أو عاشرة، وهذا ما جعل المواطن البسيط يجد في البحث عن بديل للدولة، تارة في القبيلة وأحيانا في الحزب ومرة في التنظيمات الايديولوجية، وطورا في الهجرة خارج البلاد.

***

قد يختلف الموريتانيون على كل شيء إلا أنهم يتفقون على أمر واحد هو تلك الصورة النمطية للإدارة الحكومية وعمالها: صورة تتشكل أبعادها عموما من انعدام أدنى درجات المسؤولية، واستشراء أفدح أنواع الفوضى والفساد و"السيبة" وسوء التصرف وسوء المعاملة من أسفل الهرم الإداري إلى أعلاه. ينطبق هذا على كافة الإدارات الحكومية التي جعلت المواطن العادي في خندق الخصم والعدو، كل هذا يجعل من الضروري تفعيل الوعود بتقريب الإدارة من المواطن، أو على الأصح بعقد صُلح تاريخيّ بينهما، ولكن إصلاح ذات البين هذا مسار صعب وشاق ومعقد ولا بد أن يعمل على أكثر من زاوية فتغيير العادات والمعاملات السائدة منذ نصف قرن لا يتأتي إلا بتغيير جذري في الأشخاص الذين درجوا عليها، مصداقا لقول صالح بن عبد القدوس:

والشيخ لا يترك أخلاقه*** حتي يُوارى في ثرى رمسه: 

وعليه فإنه من الأهمية بمكان ما يجري منذ سنوات من ضخ دماء شابة جديدة في مفاصل المصالح الحكومية المختلفة، أما الأهم فهو مواصلة هذا المسار بتعمق وجراءة أكبر، وتمكين الشباب حقا من المناصب القيادية والريادية في مختلف المؤسسات.

ولكن مهمة تجديد وإصلاح الإدارة ليست مهمة الحكومة وحدها، فالمواطن أيضا مطالب وجدير بالمشاركة في هذه المعركة التي يعتبر هو المعني الأول بها، في هذا الإطار لا يجب أن نكتفي بالالحاح والتذكير الدائم بضرورة الاستعجال في إصلاح القطاع الإداري، ولا أن نكتفي بفضح وتعرية أي سلوك فسادي نرصده في هذه الإدارة أو تلك، ولكن علينا أيضا أن نبحث وننقب في مصالحنا الحكومية المختلفة عن نماذج جيدة ومثالية ـ ولو نسبيا ـ لتسليط الضوء عليها وإنصافها ليس فقط مكافأة لخروجها عن جملة الإدارات والمصالح الفاسدة، بل أيضا لدفع الآخرين للاقتداء والاحتذاء بها.

في هذا الإطار أرى من المناسب أن أتحدث عن تجربتي في إحدى هذه المؤسسات "النموذجية" وهي الوكالة الموريتانية للأنباء التي جئت إليها متدربا بعد تخرجي من الجامعة صيف 2012. فبعد جولة شاقة وخائبة  بحثا عن تدريب غير معوض في أي مصلحة حكومية، نصحني أحدهم بالتوجه إلى هذه المؤسسة، وفي اليوم الموالي أتيت لمقر الوكالة رفقة زميل آخر يبحث عن تدريب.

كان الفرق واضحا منذ البداية بين هذه الوكالة وبين جميع تلك المؤسسات التي ترددنا عليها قبل ذلك، بدا ذلك جليا منذ أول وهلة عندما استقبلنا الحرس الخارجي، كان مظهرهم الخارجي مقبولا وكانت لغة الخطاب لطيفة كثيرا ومهذبة عكس أقرانهم في المؤسسات الأخرى. بعد الاستفسار عن حاجتنا قادنا أحد الأفراد إلى داخل المبنى الذي بدى في هيئته يشبه الادارات المحترمة في العالم، واستقبلنا مدير الوكالة بعد دقائق قليلة من الانتظار ليستمع بتأن إلى طلبنا، حيث تم توجيهنا، عبر السلم الإداري، إلى المصلحة المعنية التي حددت موعدا للرد علينا.

في الموعد المحدد، استقبلنا رسالة بقبول تدريبنا في الوكالة التي تركت لنا اختيار الأقسام التي نود التدرب فيها، و اطلعنا موظفوها على شرح متكامل عن مهمة المؤسسة، وكيف تطورت وآلية عملها وأقسامها المختلفة.

 منذ اليوم الأول لم نشعر بغربة في جو العمل الجديد، كان الجميع مفعما بالجدية والحيوية والتفاني والاخلاص وروح فريق العمل، وكان الجميع متعاونا لأقصى حد، حتى خيل إلينا أن مهمة كافة العمال هي الإشراف على تدريبنا، وهكذا اندمجنا في جو التدريب ولم يتطلب الأمر وساطات ولا اتصالات ولا رسائل.

وطيلة فترة التدريب ظلت جميع أقسام الوكالة مفتوحة أمامنا، وظل الجميع مستعدا للإجابة على تساؤلاتنا واستفساراتنا ومساعدتنا كلما تطلب الأمر. كان الجو العام محفزا على العمل والعطاء، حيث يسود المؤسسة تنظيم محكم، وتقاسم دقيق للمهام والصلاحيات واحترام متبادل، في جو من المودة بين العاملين الذين علمت شخصيا معهم، علاوة على أنها تتوفر على كافة المعدات والخبرات البشرية اللازمة لتأدية عملها، علاوة زيادة على ذلك تميز العمل بالتزام صارم بالدوام الرسمي حتى في أيام رمضان الحارة القائظة، لدرجة كان بعض العاملين يواصلون تأدية مهامهم حتى ساعة متأخرة من المساء، وهو أمر نادر جدا في مؤسساتنا، إن لم نقل إنه منعدم.

حسن المعاملة ودرجة المهنية والتجرد العالية التي لمحتها من إدارة هذه المؤسسة وعمالها ولّدت فيّ شخصيا وفي زميلي مشاعر إيجابية جدا وذكرى طيبة تجاه هذه التجربة الثرية التي غذّت خبرتنا المهنية ورسمت صورة مغايرة للصورة النمطية السائدة لإدارات الفساد والمحسوبية والتسيّب والفوضى العارمة.

وبعد انتهاء فترة التدريب الذي استمر طيلة العطلة الصيفية، استنصحني عدد من الزملاء في الإدارة المناسبة لإنجاز تدريباتهم في نهاية الدراسة، فلم أكن أتردد أبدا في نصحهم بالتوجه إلى هذه المؤسسة لما لمست فيها من تسهيل للطلاب من غير ذوي الوساطة والنفوذ، وما شهدت من جدية واتقان وحيوية في  الفريق الذي عملت داخله، وما راكمت من خبرة ومعرفة وإرشادات عملية هامة، ولكن الأهم من كل ذلك أنني أردت أن أطلع زملائي على وجود نماذج حية لمؤسسات حقيقية ـ وإن كانت للأسف قليلة جدا ـ

 

عبد الله ولد البو

 

جمعة, 04/09/2015 - 13:26