عبيد ولد إميجن
مع غياب الإرادة السياسيـة لأي عملية ديمقراطية ومساواتية لجــأت الأنظمة السياسية بموريتانيا الى نموذج "المقايضة" السياسيـة، فبموجب ذلك انعقدت صفقات الترضية مع الأطراف السياسية الداخلية وضمنت الأنظمة بقاءها لفترات أطول في الحكـم دون مضايقات تذكر من قبل الأطراف الخارجية.
يمثل النموذج الموريتاني في "المقايضـة" السياسية عقيـدة يحرص عليها رجالات السياسة بالذات بهدف تحقيق المصالح الخاصـة
على حساب مصلحة المجتمع والوطن والمواطن الغارق في الأزمات المتنوعة والمتعددة والتي تحتاج الى رجال دولة من الدرجة الاستثنائية لحلها لا الى رجال مقايضة ينعشون مواقفهم بفضل المتاجرة بالمواقف الشبيهة بما كان حادثا في الأسواق الأسبوعية المنتشرة سابقا في المنطقة.
"المقايضـة" السياسية؛ بدأت في موريتانيا مع أعضاء حركة الكادحيـن اللذين قايضوا مواقفهم بالمكاسب الوظيفية لدى مؤسسات حزب الشعب واستمرت المقايضـة حتى انه في الوقت الحالـي يُحسب العشرات من كبار المسؤولين التنفيذيين (وزراء، وبرلمانيين وموظفين سامين) الى حزب سياسي هو الأكثر راديكالية على الاطلاق في الوقت الحاضر! ولكن وصول هؤلاء الى وظيفة "صانع قرار" لم تجعلهم جزءا من التغيير او الإصلاح بل انها ساهمت في جعلهم جزء من تعميق الأزمات، وهنالك مظهـر آخر لا يقل خطورة يتعلق بمقايضـة العائلات لمكانتها السياسية فتجـد الأب -حين يتقاعد- مستميتا في المعارضات وفي نفس الوقت يجتهد الأبناء والأحفاد في رعاية المبادرات المساندة. هل يتعلق الأمر هنا بحالة شذوذ تربوي أم بمواقف ديمقراطية مصطنعة عائليا؟!!.
وفقا لقراءة المعطيات والتجاذبات ومقارنتها بالواقع المعاش ومسار الحراك الحقوقي والسياسي والاجتماعي في المجتمع الحرطاني والذي يبحث قادته ظاهريا عن مخارج للأزمات المتلاحقة والمتواصلة التي تتخبط فيها شريحة لحراطين (غبن وعنصرية وعبودية وحرمان وتهميش فاستبداد.)، لكن هذه التجربة الحرطانية تكتنز مزيدا من "المقايضات" السياسية التـي لم تجلب حلا لبؤس آدوابة ولا لمعضلات شباب لحراطين المُعَطَلِين ولا لإدماج المبادرين من بيننا اقتصاديا وفكريا واعلاميا، ترى لماذا؟
لأن المقايضـة السياسية هـي التي اسفرت عن تجريم العبودية وفق القانون الصادر سنة 2007 وتعديلاته سنة 2011 حتى صارت العبودية غير قابلة للسقوط بالتقادم وكذلك قايض البعض من اجل الترشح للرئاسة 2013، والآخر يقايض الجلاد بمقدراتنا وجماهيرنا حتى غدونا بمثابة الأحمق الضحيَة.
ان انتهاج سياسات "المقايضة" لم يكن خـادما لقضية لحراطين المركزية ولم يساعد يوما في انعتاق العبيد او تنمية الأرض وزيادة الوعي الوطني، ويمكننا رصد فشـل نهج "المقايضة" السياسية من خلال الأمثلة الموالية :
1> المجال المالي والتجاري والاقتصادي : لم تهتدي المقايضات السياسية في يوم من الأيام الى مقايضة الأنظمة المدنية والعسكرية بالتوزيع العادل للثروات الوطنية، كما لـم تولي كبير اهتمام بتشجيع الوسط المالي والتجاري على دمج المبادرات الاقتصادية التي يقودها حراطين؛ والنتيجة ان اتحاد ارباب العمل لا يقود أيا من اتحاداته حرطان واحد ولا توجد مؤسسة مصرفية او بنكية يديرها او يملكها حرطاني ولا توجد شركة مقاولة أو أخرى للاستيراد من الحجم المتوسط أو الكبير تعود ملكيتها لهم، ويمكنك ان تقيس بقية الأصول الاقتصادية التي توزعها الدولة على أبناء العائلات وفق مقايضات سياسية معلومة (رخص الصيد والتنقيب والاستثمار والقرض الفلاحي والبحري والحيواني)، وبالتالي النتيجة صفرية تماما في هذا المجال.
2> في المجال الإعلامي والثقافي والرياضي: على مـر الأزمان والحقب انجبت مجتمعات لحراطين العديـد من المبتكرين والمبدعين والرياضيين، لكن زهرات حياتهم تذوب سريعا دون كبير اهتمام وسبق وان حدثني مدرب مشهور وبمرارة عـن انه سيختم حياته دون تكريم أو لفتة تجاه خدماته لكرة القدم الموريتانية، وكذلك الحال مع العديد من الفنانين الهواة والمحترفين اللذين يعيشون على هامش الاعتبار بل ان البعض منهم خوطب من قبل القطاعات الوزارية بما يفيد عدم الاهتمام لأن فرقته غير ملونة او غير مرضي عنها، والشعراء وجدوا اتحادا للأدباء مغلق دونهم و المداحة يأتون ويرحلون دون رعاية رسمية او اهتمام يليق والسبب طبعا لأنهم حراطين، وبطبيعة الحال اتحادية الرماية كلها بيظان لكن ذلك لم يمنع الدولة من تصنيفها ذات نفع عام مما يوجب رعايتها رسميا.. الخ
3> في المجال الديبلوماسي والتعليمي : لم تسفر المقايضات السياسية التي أبرمها سياسيو لحراطين عن خلق فرص امام الطلبة والشباب من شريحة لحراطين لمواصلة التعليم في كبريات الجامعات الدولية في الداخل والخارج، كما انه من نافلة القول ان البعثات الخارجية لموريتانيا لا تستحضر التنوع الثقافي، وهـي كذلك لا تعكس الكفاءات المهنية لموظفيها، فهـل يراد للعالم ان يطلع على ان موريتانيا ليست سـوى مكون واحد؟
4> في مجال دولة القانون والحق: كل النصوص القانونية المجازة اعتادت السلطات على تركها مجمدة فلم يطبق قانون المتاجرة بالأشخاص ولا قانون تجريم العبودية ولا قانون المدونة الشخصية ولا القانون العقاري ولـا يزال اغلب رؤساء محاكمنا يدبجون احكامهم بحواشي الشخ خليل!؛ لماذا لأن الإرادة مُغيبة أو غائبة ولأن القوانين استعجل على اجازتها وفق مقايضات وليس تحت الضغط الشعبي الذي سيفرض فيما بعد تطبيقها !.
يؤسفني القول أيضا ان المقايضة السياسية انما تعين رجالا براغماتيين بعينهم على الوصـول الى طموحاتهم ولكنها لا تخدم قضية مجتمع لحراطيـن المطحون كما انها لا تنصف قيم العدالة والمساواة بين المكونات الوطنية (بيظان، حراطين وبولار وسوننكي وولوف).
في النص الموالي من هذه السلسلة سنتحدث حول "المساومة" السياسية.