مرت سنوات عجاف، يعثُر بعضها ببعض، كانت الدولة الموريتانية فيها أبعد ما تكون من النظام الجمهوري، الذي يكرّس دولة القانون و يعزّز فصل السلطات و يعضّد حقوق المواطنة و واجباتها..
فقد تمت مصادرة حلم الديمقراطية الجميل، لتبنى على أنقاضه “ديكتا- ديمقراطية”، تتخذ من الشكل الديمقراطي الإجرائي أداة لقتل لُبها و الفتك بجوهرها، الذي يجعل المواطن شريكا في عملية البناء، مُوكَلاً إليه دور تنموي يضلع به في خلية النحل، المنسجمة في قوانيها و آلياتها، و التي اسمها “الوطن”.
تسعة سنوات، تم فيها الإجهاز على كل معاني و مفاهيم “الدولة”، و تم فيها ابتذال الإنسان، و مصادرة حقوق المواطنة.. فاختُزلت فيها الصلاحيات و أُطلقت القرارات للقوة على حساب الشرعية، و للارتجالية على حساب الحكمة وبعد النظر..
فكانت السلطة المطلقة مفسدة مطلقة، أتت على قوت المواطن و قوّته، فانهار الاقتصاد، و ارتفعت الأسعار اطّراداً، و غلت المعيشة، و أثخنت البطالة جراحها في الشباب، الذين لم تؤد بهم طرق الضياع إلا إلى مجاهل الإرهاب و الجريمة المنظمة.
لم تعد للاقتصاد ملامح واضحة، فقد امتزجت فيه الليبرالية المتوحشة بتوجيه لا ضوابط له.. و احتكرت فيه ثلة قليلة من أقارب الرئيس و المقربين منه حظوظاً و امتيازات غير مستحقة، و تم منح الصفقات في عتمة الظلام للموالين، وحرمان المعارضين و المغضوب عليهم من حقوقهم فيها.. و لم تعد الكفاءة و الاستقامة المهنية معياراً للانتداب لخدمة البلاد، و إنما الولاء للنظام و السمع و الطاعة للحاكم..
و أصبحت القدرة على “إخفاء ملامح الفساد” مَلَكَةً تحظى بتشجيع رئيس الدولة.. فلم تعدُ البلاد غير مزرعة كبيرة للحاكم تدرّ عليه غلّتها و خراجها، و سجناً كبيرا لغير المنسجمين مع جوقة ببغاواته. و لم تعد السياسة وسيلة لخدمة الوطن، و إنما طريقة للإثراء غير المشروع، و ذلك بخدمة تطلعات النظام الفاسدة، من خلال التصويت عليها في غرفتي البرلمان..
أصبحت الأحزاب وعاءً للبحث عن المنافع الخاصة و ليست إطاراً لخدمة الوطن.. و السلطة القضائية دمىً تحركها السلطات التنفيذية، في كوميديا متداخلة الألوان: سوداءَ بلون الظلم و الظلام، حمراءَ بلون الدم و الدمار. و قد تلاعب النظام السياسي بالوحدة الوطنية، فأضرم نارَها و أذكى أُوارها.. و سجن الحقوقيين المتطلعين لخلع ربقة الاسترقاق.
و هكذا غدت حرية التعبير و الإعلام جسداً لا روحَ فيه، فقد أُفعمت الساحة الصحفية بإدعياء المهنة، الذين يخدمون السلطات بذر الرماد في عيون الحقيقة، و بممارسة “حرية قشور” لا تطرق كفُها الأبوابَ المغلقة و الكواليس المعتمة، حيث يقصى الجادون و يسجن الأحرار و يجوّعون. المؤسسات الدستورية مجرد “مكياج” باهت لتزيين الديمقراطية الشوهاء.. و الشعارات أكاذيب مجتها الأسماع، بعد أن أنقلبت لأضدادها.. و “الانقلابي” الذي كسع قفا التاريخ، يسيّر الشأن العام بعصبية شرطي مرور..
و قد أعارت الحكمة و الأناة مقاعدها للتسرع و الانفعال. و الجيش الوطني، راعي الديار و حامي الذمار و المنافح عن الدستور، تم تطويعه لحماية الدكتاتورية و الاستبداد، و للنكاية بالمواطنين و إذلالهم.. و تم الإجهاز على كل معاني السمو و الكبرياء التي كانت تسكن نفوس أبنائه، بامتيازات يتفاوتون في نيلها تفاوتهم في الحظوة بالترقية في الرتب. و تأتي هذه الوضعية، التي استقال النخبة و المثقفون من واجب نقدها و تمحيصها و تقويم اعوجاجها، في ظل وهَن و خَوَر المعارضة التي لا تزيد، أمام عجزها عن مواجهة مرحلة و مواكبة أخرى،
عن التبرقع في إطار و شكل سياسي جديد.. و إزاء تلك الوضعية الكارثية يتحلّل الجسد السياسي إلى أن يتعفن.. و تصبح الوطنية استثناءً و الخيانة قاعدة. يصبح الخيار بين إعدامين لا بين وجودين.. و يصبح بطنُ “هَرشى” و قَفاها طريقاً سالكةً إلى الجحيم. فهل نطلق أرجلنا للريح، و نترك الثوب الذي يحترق فوق أجسادنا يلتهمها؟.. أم نقف رابطي الجأش لنخلعه عنها قبل أن تستحيل رماداً تذروه عواصف لم تسلم منها دول أعظم و لا مجتمعات أقوم؟! يجب أن يتنازل السياسييون من أجل أن ينقذوا الوطن من براثن الطغمة العسكرية الفاسدة، التي تواظب على إقصاء الصالحين من ضباطها و جنودها..
و من هذا المنطلق أوجه مبادرة لكل من يتطلعون لوطن، يلف بلَحَاف حنانه و دفء رحمته كل أبناءه.. وطنِ متساوِ كأسنان المشط غير متفاوتِ كأصابع الكف.. وطنِ لا أسياد فيه و لا عبيد.. لا أشراف فيه و لا أطراف.. لا سادة و لا مسودون.. وطنِ لا لون له و لا عرق.. لا جهة له و لا قبيلة.. وطن لا بصمة تطبعه غير أنه “الوطن”.
فأدعو كل من دافعوا يوماً عن حُلم الديمقراطية الذي صادرته الأحذية الخشنة، شبابا و شيوخا، نساءً و رجالاً، إلى تشكيل “جبهة وطنية للدفاع عن الدستور”، يعملون من خلالها على أن لا يُخلَص لدستور البلاد و فيهم عين تطرف..
و أدعو المحترمين أحمد ولد داداه و مسعود ولد بلخير، الصامِدَين تحت صهد شمس النضال الحارقة لأن يعلنوا للرأي العام عدم سعيهم للترشح للرئاسيات المقبلة، احتراما للمادة (26) من دستور موريتانيا التي تنص على “أن كل مواطن مولودٍ موريتانياً يتمتع بحقوقه المدنية والسياسية ولا يقل عمره عن 40 سنة ولا يزيد عن 75 سنة بتاريخ الشوط الأول من الانتخابات مؤهل لأن ينتخب رئيساً للجمهورية”.
إن المعارضة التي لا تسعى بحوار و لا بغيره، لتغيير الدستور، سيكون لها من المصداقية ما يمنحها القوة لحمايته من مطامح العابثين به. و من أجل العمل على تبيئة الديمقراطية، و تحييد الدولة عن المجال السياسي، بما يضمن مستقبلا ديمقراطيا، لا تصادره مساعي “التخليف” و “التوريث”، ينبغي العمل على أن يتم اعتبار ما تبقى من مأمورية الرئيس الإنقلابي محمد ولد عبد العزيز فترة انتقالية، يتم التفكير، من خلال “منتديات عامة”، على آليات و طرق تسييرها، بتشاور و تشارك يضمن عدم الالتفاف على مستقبل الديمقراطية في البلاد. إننا بهذا المسعى، الذي نهضم فيه نفوسنا، ونغلب المصلحة العامة على الحسابات الخاصة، نضمن لأولادنا مستقبلا و حياة باسمة فوق هذه الأرض التي عليها ما يستحق الحياة.