الأخبار (نواكشوط) – تعددت "التقنيات"، و"الأساليب" المستخدمة في "نهب"، وتفليس الشركة الوطنية للإيراد والتصدير "سونمكس"، خلال السنوات الأخيرة، وأدت هذه العمليات لخسارة الشركة لعشرات المليارات من الأوقية، وهو ما جعلها على حافة الإفلاس، ودفع الحكومة لتشكيل "لجنة أزمة" لتقييم وضعيتها، واقتراح حلول للتعامل مع وضعها المالي الصعب.
الشركة التي أنشأت خلال عقد السبعينات وأوكلت لها مهمة السهر على توازن أسعار المواد الغذائية الأساسية، ومحاربة الاحتكار، واجهت خلال العقد الأخير، عمليات متنوعة، ومسلسل تحايل، بيع خلالها مخزونها الغذائي بنصف ثمنه، وتضخمت بنيتها الإدارية وتضاعفت رواتب عمالها بناء على "وعد" بتمويل من "رجل أعمال سعودي" تحول إلى سراب، كما تحولت الشركة إلى "بقرة حلوب" لعدد من مقربي الرئيس ولد عبد العزيز، واكتملت حلقة الإفلاس بمنع الشركة من "الاستيراد"، وتحويلها إلى زبون لمن يفترض أن يكون أكبر منافس تجاري لها.
بداية الانهيار
وصل الرئيس الموريتاني محمد ولد عبد العزيز للسلطة يوم 06 أغسطس 2008 وشركة "سونمكس" في حالة تعاف اقتصادي وتوازن مالي، أعقب فترة خسارة منذ الفترة الانتقالية وصل عجزها فيها إلى 4.8 مليار أوقية، وتمثل هذا التعافي في امتلاكها لـ17 مليار أوقية، من بينها مخزون بقيمة 9.3 مليار أوقية، إضافة لديون تبلغ 6.2 مليار (منها 1.5 مليار ديون على الزبناء)، و2 مليار ودائع في الحسابات البنكية.
وبدأت نذر "انهيار التعافي" من الأيام الأولى للانقلاب، حيث أوقفت الجهات المانحة دعمها لموريتانيا، وكان من بينها البنك الإسلامي للتنمية، والذي أوقف دفع أقساط من عقد مرابحة كان قد وقعه مع شركة سونمكس يوم 22 – 06 – 2008، وتبلغ قيمته المالية 43 مليون دولار، وهو ما فرض على البنك المركزي – بصفته الضامن للصفقة – دفع مستحقات الشركاء التجاريين للشركة.
أولى عمليات التحايل..
تعرضت الشركة لمسلسل طويل من عمليات التحايل، بدءا من عملية "رجل الأعمال السعودي المحتال"، مرورا بعمليات شراء المنتوج الوطني وما عرفه، وصولا إلى عمليات الأسمدة التي ظهرت إلى العلن قبل عدة أشهر.
توكيل المحامي لي صيدو، والذي بدأ إجراءات متابعة "المحتال السعودي" قبل أن تصدر "أوامر عليا" بوقفها
في العام 2009 التقى الرئيس الموريتاني محمد ولد عبد العزيز خلال زيارته للسعودية شخصية تحمل اسم "عادل حسين بدوي"، وقدم نفسه بصفته "رجل أعمال سعودي من أصل سوداني"، وكانت وسيطة اللقاء إحدى قريبات الرئيس وتسمى "اغليوه بنت الغرابي".
قدم رجل الأعمال "عرضا" للرئيس ولد عبد العزيز تحدث فيه عن "تخصصه" في مجال "عمليات التوريد على المستوى الدولي"، طالبا توقيع اتفاق يتولى بموجبه تزويد شركة "سونمكس" بجميع احتياجاتها من المواد الغذائية والسلع الاستهلاكية والتجهيزات المساندة ووسائل النقل والتخزين وذلك لمدة خمس سنوات وبحد أدنى من الطلبات والإعمال المنفذة بقيمة 50 مليون دولار أمريكي سنويا، فيما قدر التمويل الإجمالي بـ"62 مليار أوقية".
ولد عبد العزيز أحال "رجل الأعمال" عادل حسين بدوي إلى وزير التجارة حينها بمب ولد درمان مع أوامر بتوقيع اتفاق معه باسم شركة "سونمكس"، وهو ما تم يوم 06 أكتوبر 2009.
وبناء على توقع هذا التمويل "الهائل" عرفت الشركة "تضخما" في بنيتها الإدارية، وفي رواتبها، فقد انتقلت من إدارتين (2) مركزيتين إلى سبع (7) إدارات، ومن سبع (7) مصالح إلى اثنتين وعشرين (22) مصلحة، قبل أن تضطر الشركة بعد "تلاشي" التمويل الوهمي إلى التراجع عن هذا التضخم، فيما تمت مضاعفة رواتب العمال ثلاث مرات.
كما قامت الشركة في ضوء توقعها للتمويل باكتتاب المزيد من العمال والأطر كان من بينهم محمد ولد اسبيعي الذي منح راتبا بمليون (1) أوقية، وتم ترقيته لاحقا إلى مدير تجاري للشركة، ليتحول العام الماضي إلى عنوان رئيسي فيما عرف بـ"فضيحة الأسمدة".
وبعيد توقيع الاتفاقية وجهت شركة "سونمكس" طلبا بتحويل مقدم مالي بقيمة 50 ألف دولار (15 مليون أوقية) كنفقات "للضيف"، و206 مليون أوقية مقابل توريد يتعلق بإيراد وتغطية التأمين، وتم تحويلها له على حساب في البنك المغربي للتجارة الدولية BMCE، ليختفي "رجل الأعمال" بعدها إلى اليوم، مما اضطر الشركة بعد فترة من الانتظار إلى فسخ العقد، واللجوء لمحاميها لبدأ الإجراءات القانونية ضده
أوامر عليا بـ"وقف المتابعة"
محامي شركة "سونمكس" لي صيدو بدأ إجراءات تقديم الدعوى أمام القضاء الموريتاني، وأعد وثائقه لمتابعة "رجل الأعمال المحتال" على المستوى الدولي بعد استصدار "مذكرة اعتقال دولية في حقه"، مع اللجوء إلى الشرطة الدولية للأنتربول للمساعدة في الأمر.
الرئيس الموريتاني محمد ولد عبد العزيز خلال زيارته لأحد مخازن الشركة (وما)
بدأ المحامي صيدو إجراءاته بناء على أوامر من الإدارة العامة للشركة، غير أن مفاجأة المحامي والإدارة كانت كبيرة عندما صدرت "أوامر عليا من الرئاسة" بتوقيف كل الإجراءات القانونية ضد رجل الأعمال الذي هرب بمبالغ مالية كبيرة، وكانت خسارة الشركة مضاعفة حيث "تضخمت" مصالحها ورواتبها بناء على تمويل بـ"62 مليار" تحول إلى سراب بقيعة، وتم "تحصين" منفذه من أعلى سلطة في البلاد، بسبب "علاقته" مع مقربين اجتماعيا من الرئيس.
"نهب المخزون"
بعيد انقلاب 2008، أعلن الرئيس ولد عبد العزيز عن العديد من الإجراءات من بينها تخفيض أسعار المواد الغذائية الأساسية، وتخطيط الأحياء العشوائية في قلب مدينة نواكشوط وضواحيها، وكان "الخفي" في الصورة أن "تخفيض" الأسعار بدأ بكبار رجال الأعمال، حيث استفاد اثنان منهم من "تخفيض نوعي" للمخزون الموجود لدى شركة "سونمكس".
ففي الأسابيع الأخيرة من العام 2008 قامت شركة "سونمكس" ببيع مخزونها الغذائي بنصف سعر الشراء، وكانت الصفقة حكرا على أهل غده، ورجل الأعمال خطاري ولد دحود مالك مطاحن السنابل.
صفقة لتوريد أسمدة، اضطرت الشركة لدفع 600 مليون زياة على المبلغ الأصلي لإكمالها، وسترد تفاصيلها في حلقة قادمة (الأخبار)
وبموجب هذه الصفقة خسرت الشركة عدة مليارات في أسابيع قليلة، حيث قدرت خسارتها بـ11 مليار أوقية.
وتم تبرير بيع مخزون الشركة بنصف سعره بحجة "تلفه" في المخازن، غير أن نفس المخزون تم بيعه بأضعاف سعره من قبل المشترين في السوق، ما اعتبر نفيا للتلف، و"شهادة" صحة للمخزون من التجار الذي تولوا شراءه.
الحكومة الموريتانية حولت خسارة هذه الصفقة إلى ديون على الشركة، قبل أن تقرر إضافة الديون "المفترضة" إلى رأس مال الشركة، وهو ما يقتضي زيادة حصتها مقابل مبلغ افتراضي، كما أدى لتقلص حصة الخصوصيين في الشركة التجارية من 32% أيام وصول ولد عبد العزيز للسلطة إلى 9% فقط، ومنح الحكومة شبه انفراد في القرار داخل مجلس إدارة الشركة.
وكانت حصة الخصوصيين تبلغ 45% من رأس مال الشركة عند انطلاقتها في السبعينات، حيث وفرت مشاركتهم رقابة أكثر تشددا على عمليات الشركة، وكان لحضورهم في مجلس الإدارة ودفاعهم عن "أموالهم" دوره في حمايتها من الخسارة.
التحول إلى زبون لدى المنافس
وكانت ثالثة "أثافي" تفليس الشركة الوطنية للإيراد والتصدير "سونمكس" هو "إفراغها" من مهمتها الأساسية وهي "الإيراد"، بهدف الحفاظ على توازن أسعار المواد الغذائية، وكسر احتكارها، وتوقفت عمليات استيراد الشركة للمواد الغذائية من الخارج بشكل كلي منذ العام 2015، وهو ما حولها إلى زبون لدى من يفترض أنه منافسها الرئيس وهي شركات "أهل غده".
وبناء على القرار، تم توقيف "استفادة" الشركة من عقد مرابحة كان يجمعها مع المؤسسة الدولية الإسلامية لتمويل التجارة ITFC التابعة للبنك الإسلامية للتنمية، وبموجبه يحق للشركة الاستفادة من قرض بقيمة 15 مليون دولار سنويا، مع ربح لا يتجاوز 6%، مقابل نسبة تبلغ 18% في البنوك المحلية بموريتانيا.
وتشترط المؤسسة الإسلامية أن يكون عقدها وفقا لصيغة المرابحة، وأن يوجه لشراء المواد الغذائية، وهو ما "فرض" على الشركة التوقف عنه منذ 2015 حماية لمصالح شركات أهل غده التي تحتكر استيراد المواد الغذائية للسوق الموريتانية.
توقيف الاستيراد أفرغ الشركة من مهمتها الأساسية في تحقيق توازن أسعار المواد الغذائية ومحاربة الاحتكار، وحولها إلى أداة بيد كبار التجار، ووسيلة لتربحهم من خلال تحويلها إلى زبون لهم، كما أدى لرفع عجز الشركة إلى 7 مليارات أوقية.
وخلال السنتين الأخيرتين احتكرت شركات أهل غده بشكل شبه كلي كل صفقات "سونمكس" من المواد الغذائية، سواء المتعلقة ببرنامج "أمل" ذي التأثير "الخطير" على الشركة – كما ستبينه الحلقة القادمة"، أو المتعلقة بالبرامج الحكومية الأخرى.
يدخل هذا التقرير ضمن سلسلة تقارير تعدها الأخبار عن العمليات التي تعرضت لها الشركة الوطنية للإيراد والتصدير "سونمكس" خلال السنوات الأخيرة، ونقلتها من مرحلة تعاف اقتصادي إلى حافة الانهيار، وأدت بالحكومة لتشكيل "لجنة أزمة" تضم عدة قطاعات حكومية لدراسة سبل التخلص من عبئ شركة "سونمكس".