مساحة إعلانية

     

 

    

  

الفيس بوك

مغالطة الهندسة الجيولوجية

 بينما يناضل العالَم لكبح جِماح الانبعاثات الغازية المسببة لتغير المناخ والحد من الاحتباس الحراري، يكتسب حل تكنولوجي خارق جديد عددا متزايدا من المؤيدين، ألا وهو الهندسة الجيولوجية التي يجري الترويج لها بوصفها وسيلة لمواجهة الآثار السلبية الناجمة عن تغير المناخ.

ويعمل أنصار هذا العِلم على تغذية وهْم وجود هندسة مناخية كوسيلة للخروج من أزمة المناخ وتلبية أهداف اتفاقباريس للمناخ عام 2015، مع الحفاظ على نمط الحياة القائم على الاستهلاك المفرط.

لكن هذا الحل ليس بسيطا كما يريد لنا أنصاره أن نتخيل. فالرهان على الهندسة المناخية -سواء كسياسة لتأمين كوكب الأرض أو محاولة أخيرة لمكافحة ارتفاع درجات الحرارة- ليس محفوفا بالمخاطر فحسب، بل إنه يوجه الانتباه أيضا بعيدا عن الحل الوحيد الذي نعلم أنه ناجح: خفض الانبعاثات الكربونية.

"
الرهان على الهندسة المناخية -سواء كسياسة لتأمين كوكب الأرض أو محاولة أخيرة لمكافحة ارتفاع درجات الحرارة- ليس محفوفا بالمخاطر فحسب بل يوجه الانتباه أيضا بعيدا عن الحل الوحيد الناجح: خفض الانبعاثات الكربونية
"

إدارة الإشعاع الشمسي
ولا تخلو كل تكنولوجيات هندسة المناخ المطروحة للمناقشة من مخاطر وشكوك، ومن بينها حل "إدارة الإشعاع الشمسي" الذي ينطوي السبيل الوحيد لاختبار مدى فعاليته على نطاق عالمي على إجراء تجارب على البيئة، سواء من خلال رش جسيمات في طبقة الستراتوسفير من الغلاف الجوي، أو عن طريق تعديل السحب اصطناعيا.

ورغم أن مثل هذه الاختبارات ستكون مصممة لتحديد ما إذا كانت إدارة الإشعاع الشمسي تعكس القدر الكافي من سطوع الشمس لتبريد الكوكب، فإن التجريب في حد ذاته ربما يتسبب في أضرار لا يمكن إصلاحها. وتتنبأ النماذج الحالية بأن نشر عمليات إدارة الإشعاع الشمسي قد تغير أنماط هطول الأمطار العالمية، والإضرار بطبقة الأوزون، وتقويض سبل عيش الملايين من البشر.

وبعيدا عن المخاطر البيئية، يحذر المنتقدون بأنه بمجرد نشر إدارة الإشعاع الشمسي على نطاق عالمي ربما يعمل على توليد أسلحة قوية تعطي الدول أو الشركات أو الأفراد القدرة على التلاعب بالمناخ لتحقيق مكاسب إستراتيجية (وهي الفكرة التي لا تستطيع حتى هوليود أن تقاومها). ولكن ربما كان الانتقاد الأكثر أهمية سياسيا: ففي عالَم يتسم بتحدي تعددية الأطراف، كيف يمكن إدارة التدخلات البيئية العالمية؟

تخزين ثاني أكسيد الكربون تحت الأرض
وتحيط أسئلة مماثلة بمجموعة أخرى رئيسية من تكنولوجيات هندسة المناخ المطروحة للمناقشة تسمى إزالة ثاني أكسيد الكربون. ويقترح أنصار هذه التكنولوجيات إزالة ثاني أكسيد الكربون من الغلاف الجوي وتخزينه تحت الأرض أو في المحيطات.

والواقع أن بعض أساليب إزالة ثاني أكسيد الكربون محظورة بالفعل، نظرا لمخاوف مرتبطة بالعواقب البيئية المحتملة. فعلى سبيل المثال، عام 2008، تقرر حظر تخصيب المحيطات بالعوالق القادرة على احتجاز الكربون بموجب بروتوكوللندن بشأن التلوث البحري. وقد أعربت الأطراف المصدرة للقرار عن قلقها إزاء الأضرار المحتملة التي قد تلحق بالحياة البحرية.

"
حتى يتسنى لأساليب الطاقة الحيوية وإزالة ثاني أكسيد الكربون تحقيق حدود الانبعاثات التي نص عليها اتفاق باريس، يتطلب الأمر ما بين 430 مليونا و580 مليون هكتار لزراعة الغطاء النباتي المطلوب. وهذا يمثل ثلث الأراضي الصالحة للزراعة عالميا
"

الطاقة الحيوية مع إزالة ثاني أكسيد الكربون
غير أن أساليب أخرى لإزالة ثاني أكسيد الكربون بدأت تكتسب الدعم. وتهدف واحدة من أكثر هذه الأفكار طرحا للمناقشة إلى دمج الكتلة الحيوية مع تقنيات احتجاز الكربون وتخزينه، وتسمى هذه الطريقة "الطاقة الحيوية مع إزالة ثاني أكسيد الكربون" وهي تسعى إلى إقران قدرات امتصاص ثاني أكسيد الكربون التي تتمتع بها نباتات سريعة النمو وأساليب تخزين ثاني أكسيد الكربون تحت الأرض.

ولكن كما هو الحال مع حلول أخرى هندسية، فإن الوعود ببساطة أعظم من أن تكون حقيقية. فعلى سبيل المثال، سوف يتطلب الأمر كميات هائلة من الطاقة والمياه والمخصبات لإدارة أنظمة الطاقة الحيوية وإزالة ثاني أكسيد الكربون بنجاح.

ومن المرجح أن تؤدي التأثيرات الناجمة عن استخدام الأراضي إلى خسائر في الأنواع البرية، وزيادة المنافسة على الأراضي وإزاحة السكان المحليين. حتى أن بعض التنبؤات تشير إلى أن أنشطة تطهير الأراضي والبناء المرتبطة بهذه المشاريع ربما تؤدي إلى زيادة صافية في الانبعاثات الغازية المسببة للاحتباس الحراري العالمي، على الأقل في الأمد القريب.

ثم هناك مسألة الحجم. فحتى يتسنى لأساليب الطاقة الحيوية وإزالة ثاني أكسيد الكربون تحقيق حدود الانبعاثات التي نص عليها اتفاق باريس، يتطلب الأمر ما بين 430 مليونا و580 مليون هكتار (1.1 مليار إلى 1.4 مليار فدان) من الأرض لزراعة الغطاء النباتي المطلوب. وهذا يمثل ثلث الأراضي الصالحة للزراعة في العالَم.

"
بدلا من إنشاء مزارع اصطناعية تحتجز ثاني أكسيد الكربون، ينبغي للحكومات أن تركز على حماية الأنظمة الإيكولوجية الطبيعية القائمة بالفعل والسماح للأنظمة المتدهورة بالتعافي
"

الأنظمة الإيكولوجية الطبيعية
ببساطة، هناك طرق أكثر أمانا -وثابتة- لسحب ثاني أكسيد الكربون من الغلاف الجوي. فبدلا من إنشاء "مزارع" اصطناعية تحتجز ثاني أكسيد الكربون، ينبغي للحكومات أن تركز على حماية الأنظمة الإيكولوجية الطبيعية القائمة بالفعل والسماح للأنظمة المتدهورة بالتعافي. والواقع أن الغابات المطيرة والمحيطات وأراضي الخث (مثل المستنقعات) تتمتع بقدرة هائلة على تخزين ثاني أكسيد الكربون ولا تتطلب التلاعب التكنولوجي غير المجرب.

ويرى أنصار الدفع بتكنولوجيات غير مثبتة -كعلاج لكل العلل المرتبطة بتغير المناخ- أن العالَم يواجه اختيارا حتميا: فإما الهندسة الجيولوجية أو الكارثة. ولكن هذا محض تضليل وخداع. إذ تفسر التفضيلات السياسية، وليس الضرورة العلمية أو البيئية، جاذبية الهندسة الجيولوجية.

من المؤسف أن المناقشات الدائرة حاليا حول هندسة المناخ غير ديمقراطية ويغلب عليها منظور تكنوقراطي للعالَم، ووجهات نظر من العلوم الطبيعية والهندسة، والمصالح الخاصة في صناعات الوقود الأحفوري. ولابد من إعطاء البلدان النامية والشعوب الأصلية والمجتمعات المحلية صوت بارز، حتى يُصبِح في الإمكان دراسة كل المخاطر بشكل كامل قبل اختبار أو تنفيذ أي من تكنولوجيات الهندسة الجيولوجية.

كيف ينبغي لنا إذن أن ندير المناقشة حول الهندسة الجيولوجية؟
بادئ ذي بدء، ينبغي لنا أن نعيد النظر في المشهد الفعلي القائم. في عام 2010، اتفقت أطراف اتفاقية الأمم المتحدةبشأن التنوع البيولوجي على وقف دولي بحكم الأمر الواقع للهندسة الجيولوجية المرتبطة بالمناخ. ولكن اليوم، في ظل الضغوط الشديدة التي يفرضها الأنصار الأقوياء لإخراج تكنولوجيات الهندسة الجيولوجية من المختبر، لم يعد الحظر الرسمي كافيا، بل إن العالَم في حاجة ماسة إلى مناقشة صريحة للبحوث الخاصة بهذه التكنولوجيات، ونشرها وإدارتها. وتشكل اتفاقية الأمم المتحدة بشأن التنوع البيولوجي وبروتوكول لندن نقطة انطلاق أساسية لهذه المناقشات حول الحوكمة والإدارة.

"
هناك خيارات تخفيف مؤكدة ويمكن تنفيذها بنشاط تتضمن توسيع نطاق الطاقة المتجددة، والتخلص التدريجي من الوقود الأحفوري، ونشر الزراعة الإيكولوجية المستدامة، وزيادة مدخلات الطاقة والموارد في اقتصادنا
"

تتضمن التكنولوجيات التي تتطلب القدر الأكبر من التدقيق مشاريع إزالة ثاني أكسيد الكربون التي تهدد أراضي السكان الأصليين والأمن الغذائي وتوافر المياه. ومن الأهمية بمكان تنظيم هذه المخططات التكنولوجية الواسعة النطاق بجدية، لضمان عدم تأثير حلول تغير المناخ سلبا على التنمية المستدامة لحقوق الإنسان.

بالإضافة إلى هذا، لابد من فرض حظر صريح على إجراء أي تجارب خارج المختبرات لتكنولوجيات إدارة الإشعاع الشمسي بسبب قدرتها على إضعاف حقوق الإنسان والديمقراطية والسلم الدولي. وينبغي لهذا الحظر أن يُدار تحت إشراف آلية حاكمة عالمية متعددة الأطراف وقابلة للمساءلة.

فنحن لم نتوصل -حتى يومنا هذا- إلى حل سحري خارق لتغير المناخ. وفي حين تتسم تكنولوجيات الهندسة الجيولوجية غالبا بالطموح، هناك خيارات تخفيف مؤكدة ويمكن تنفيذها بنشاط تتضمن توسيع نطاق الطاقة المتجددة، والتخلص التدريجي من الوقود الأحفوري (بما في ذلك التخلص مبكرا من البنية الأساسية القائمة للوقود الأحفوري) ونشر الزراعة الإيكولوجية المستدامة، وزيادة مدخلات الطاقة والموارد في اقتصادنا.

الواقع أننا لا نملك ترف المقامرة بمستقبل كوكبنا. وإذا انخرطنا في مناقشة جدية حول التدابير المستدامة إيكولوجيا والعادلة اجتماعيا لحماية مناخ الأرض، فلن نحتاج إلى الرهان على الهندسة الجيولوجية.

 

أحد, 15/10/2017 - 07:36