مساحة إعلانية

     

 

    

  

الفيس بوك

ملاحظات حول إشكالية مواءمة القوانين الوطنية مع الاتفاقيات الدولية لحقوق الإنسان

د.هارون ولد عمار ولد إديقبي

 

 

- دعوة إلى الإدراج والمواءمة-

 دُون تعمُّقٍ؛

 

 ما من شكٍّ أن انتصار مفاهيم حقوق الإنسان واجتياحها لأجزاء واسعة من الكرة الأرضية بسبب عولمة هذه حقوق التي لم يعد أحد يجرؤ على إنكارها، أدى إلى إحداث انقلاب في مضمون القوانين الدولية الإنسانية، بل تركت تأثيرا واضحا على توجُّهات الدولة الوطنية مما أدى إلى إعادة صياغة نصوصها التشريعية باتجاه توفير المناخ القانوني المناسب، والظروف المُواتية لتحقيقها على صعيد الواقع.

إن كونية هذه الحقوق فرضت أن تجسد في التزامات قانونية دولية ملزمة، تنظم الدساتير الوطنية العلاقةَ بينها والدولة الوطنية، بواسطة تكريس و دَسْترة مضامينها الحقوقية ، ومنها موريتانيا التي أعلنت بصورة صريحة التشبُّث بمبادئ حقوق الإنسان والاتفاقات المكرسة لها، بدءا من دستور:22 مارس 1959، ودستور:20 مايو 1961 المعدل له، مرورا المواثيق الدستورية العسكرية : كميثاق 10 يوليو 1978  الصادر عن الجنة العسكرية للإنقاذ الوطني الذي أعلن [تشبثه بالإعلان العلمي لحقوق الإنسان ومواثيق الأمم المتحدة، والإعلان الإفريقي لحقوق الإنسان والشعوب، وميثاق الدول العربية]، وميثاق 06 ابريل 1979 الصادر عن اللجنة العسكرية للخلاص الوطني، و ميثاق 04 يناير 1980 الصادر عن اللجنة العسكرية للخلاص الوطني، و ميثاق 25 ابريل 1981 الصادر عن اللجنة العسكرية للخلاص الوطني، و ميثاق 09 فبراير 1985 الصادر اللجنة العسكرية للخلاص الوطني، و انتهاء بدستور :20  يوليو 1991، المعدل بالقانونين الدستوريين رقم:014\2006 بتاريخ:12يوليو2006، و 015\2012 بتاريخ:20 مارس 2012 .

و قد أعلن المشرع في ديباجة هذا الدستور تمسكه بالدين الإسلامي الحنيف وبمبادئ الديمقراطية الوارد تحديدها في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر بتاريخ 10 ديسمبر 1948 والميثاق الإفريقي لحقوق الإنسان والشعوب الصادر بتاريخ 28 يونيو 1981 وفي الاتفاقيات الدولية التي وافقت عليها موريتانيا".

وبغض النظر عن الجدل الدائر حول القوة القانونية  للديباجة والذي تم حسمه حين.

ومن هنا يتضح أن موريتانيا ملتزمة بتطبيق تلك المواثيق الدولية و إدراجها في نطاق تشريعها الوطني، بيد أن طبيعة الاتفاقيات الدولية  الخاصة التي جعلتها تفتقر لعنصر الإلزام، باعتبار أن إلزاميتها تتمثل فيما تفرضه من التزامات أخلاقية على الدول؛ إذ لا ترتب أي أثار قانونية عقابية في حالة انتهاكها أو عدم احترام قواعدها، مما جعل الدساتير الحديثة يختلف تعاملها من حيث المرتبة التي تحتلها هذه الاتفاقية في سلم التدرج القانوني وفي هذا الاتجاه يمكن رصد ثلاثة اتجاهات:

الاتجاه الأول:  يجعل الاتفاقية الدولية في درجة تعلو على الدستور حيث يقع التنصيص على أن الأولوية في التطبيق لنص الاتفاقية، ويمثل هذا الاتجاه الدستور الهولندي لسنة 1953، والذي أدرجت فيه مادة جديدة هي المادة:63  التي تنص على أنه « يمكن للمعاهدة أن تخالف أحكام الدستور إذا كان تطور النظام القانوني الدولي يستوجب ذلك»، وهذا الاتجاه تبنته كل من لكسمبورغ وبلجيكا و الدنمارك.

الاتجاه الثاني: يضع الاتفاقية الدولية في مرتبة أدنى من الدستور، لكنها أعلى من التشريع الوطني كالدستور الفرنسي لسنة 1958 المعدل في 23 يوليو 2008 حيث ينص في مادته: 55 على  أن: المعاهدات والاتفاقيات التي  تم التصديق أو الموافقة عليها تفوق من حيث القوة القوانين شريطة مبدأ المعاملة بالمثل ، كما نص الدستور الألماني لـ : 23 مايو 1949 المعدل بتاريخ:20 دجمبر 1993 في مادته: 25  على أن: القواعد العامة للقانون الدولي تشكل جزءا لا يتجزأ من القانون الفيدرالي ولها أسبقية على القوانين.

وفي هذا الاتجاه تسير غالبية الدول اليوم ومنها موريتانيا كما تنص المادة:80 من الدستور" للمعاهدات و الاتفاقيات المصدقة والموافق عليها كذلك سلطة أعلى من سلطة القوانين وذلك فور نشرها، شريطة أن يطبق الطرف الثاني المعاهدة أو الاتفاقية".

الاتجاه الثالث: يعطي للاتفاقية مرتبة مساوية للتشريع الوطني فإذا صدر تشريع بعد المصادقة على الاتفاقية وكانت مخالفة له تطبيق القاعدة التشريعية اللاحقة، أو يهمل درجة المفاضلة بينهما، ويعد الدستور الإيطالي رائد هذا الاتجاه، حيث تنص المادة: 10 منه على أن النظام القانوني الإيطالي يتوافق مع قواعد القانون الدولي المعترف بها بشكل عام.

إن هذه الاتجاهات أدَّى بعضها إلى تعطيل العمل بالاتفاقيات الدولية المصادق عليها، إن لم يتم إدراجها في القانون الوطني مما أدى اليوم إلى ضرورة طرح إشكال إمكانية الملائمة والمواءمة أو الإدراج بسبب ربط العدول عن تطبيق تلك المقتضيات في كثير من الأحيان بمسائل السيادة، والاستقلال.

 إن السؤال المطروح اليوم قضائيا هو لمن تكون الأولوية حين يتعارض النص القانوني الوطني مع المعاهدة الدولية هل الترجيح يكون للمقتضى الدولي أم للتشريع الوطني؟.

 لقد أنتج هذا التساؤل موقفين قضائيين وفقهيين من هذه القضية.

الموقف الأول: يرتكز على أولوية المرجعية الكونية والاتفاقيات الدولية، على القوانين الوطنية بما فيها المرجعية الدينية، وبأنه في حالة وجود تعارض بين المرجعية الدولية والمرجعية الدينية ينبغي إعطاء الأولوية للمرجعية الدولية.

الموقف الثاني: يعتمد على سمو القوانين الوطنية على كل الاتفاقيات والمعاهدات الدولية، مستندين على أن الدستور، ينص في المادة:5 على أن: الإسلام دين الشعب والدولة، وبالتالي فان الاتفاقيات الدولية مقبولة ما دامت لا تتعارض مع الثوابت الدينية للشعب.

وبالاطلاع على المادة :80 من الدستور يبدو من أول وهلة أن المشرع الدستوري قد حسم مختلف الإشكالات المتعلقة بإدراج الاتفاقيات الدولية في المنظومة القانونية الوطنية، وتبنى آلية تحويل القانون الدولي إلى قانون داخلي، بمعنى إعطاء  القاعدة الدولية الصبغة الإلزامية بعد تحويلها إلى قاعدة داخلية، وإلا ظلت قاعدة دولية لا شأن لها بالقانون الداخلي، إلا أنه مع غياب التنصيص صراحة على ضرورة المواءمة والإدراج بين المقتضيين تبقى صفة الإلزام محل أخذ ورد لدى القضاة.

لقد تخطت بعض التشريعات هذه العقبة بالتنصيص صراحة على ضرورة المواءمة بين المقتضيات الدولية و الوطنية كما فعل المشرع المغربي الفصل 55 من الدستور.

 بينما نجد المشرع الموريتاني نص على مبدأ سمو القاعدة الدولية على القانون الوطني فقط انطلاقا بشرط توافر عنصري: المصادقة، والنشر، دون الخوض في مسألة الإدراج أو حسم الأولوية عند التطبيق.

 ولئن تمَّ التنصيص دستوريا على إجراءات المصادقة على الاتفاقية الدولية والتي تختلف باختلاف طبيعة الاتفاقية في المادتين :36 و 78، إلا أن المشرع الموريتاني قلَّص من مبدأ إشراك البرلمان في المصادقة القبلية على القرارات  الكبرى التي ترتب التزامات مالية على الدولة، و التي في حالة ما إذا أعلن المجلس الدستوري الذي يبقى من اختصاصه التصريح بناء على طلب رئيس الجمهورية، أو رئيس الجمعية الوطنية أو رئيس مجلس الشيوخ أو ثلث أعضائهما أن هذا الالتزام من شأنه أن يمس المقتضيات الدستورية فانه لا يمكن سلوك مسطرة المصادقة  عليه إلا بعد إجراء مراجعة للدستور.

إن غالبية الدول اليوم تتبني مبدأ الرقابة القبلية للقاضي الدستوري على المعاهدة الدولية، وهي رقابة اختيارية  اليوم  بموجب المادة:79 من الدستور لكن جعلها إلزامية قبل مصادقة الدولة على الاتفاقية  وان كان يجعل عملية التصديق مرتبطة بمراجعة الدستور، إلا انه هو الأكثر انسجاما مع مقتضيات اتفاقية أفينا لقانون المعاهدات لسنة 1969 التي تحظر على الدول الأطراف الاحتجاج بقانونها الداخلي العام لعدم تنفيذ التزاماتها الدولية ما لم تكن المخالفة لحكم في قانونها الداخلي ذات طبيعة بينة وتتعلق بقاعدة أساسية من قواعد القانون الداخلي (المادة:46).  

و يتضح من خلال قراءة النص الدستوري انه جعل نشر الاتفاقية منشئا لسموها على التشريع الوطني و تحيل مسألة النشر في التعبير القانوني على النشر في الجريدة الرسمية و هل هي متعلقة بنشر نص الاتفاقية كاملا ، أو قانون المصادقة عليها فقط، وهو ما طرح عدة صعوبات قانونية وعملية و شكل مدخلا للمساس بالحقوق والحريات، يكون من الأجدر هنا اعتماد المفهوم الدولي للنشر لتجاوز ما قد يثار من إشكالات بدل المفهوم العملي الضيق الذي يلزم بنشر نص الاتفاقية كاملة و هو ما قد يتعذر عمليا، و قد تم تخطي هذا العائق بنشر النص الكامل للاتفاقيات الإطارية في مجال حقوق الإنسان في العدد 1326 من الجريدة الرسمية.

إن غموض موقف مشرعنا الوطني من إشكالية السمو،و الإدراج، وغياب المواءمة بين المقتضيات القانونية المعارضة وما أكثرها للاتفاقيات الدولية أدى إلى تضارب الاجتهاد القضائي نظرا لحيرة القضاة بين اتجاهين:

 اتجاه يرجح القانون الوطني  على الاتفاقية الدولية وهو الغالب  ينطلق من أن القاضي معني بالأساس بتطبيق القانون وليس إلغاؤه أو تعديله، ومتعللا بان الاتفاقيات الدولية لحقوق الإنسان مجرد التزامات أخلاقية ضاغطة لا يترتب جزاء على الإخلال بها ويشترط لتطبيقها ضرورة اللجوء إلى مسطرة المراجعة الدستورية لتعديل الدستور حتى يتوافق مع أحكام المعاهدة من جهة، واشتراط اتخاذ التدابير التشريعية اللازمة لإدراج مضمونها داخل النظام القانوني ككل، من جهة أخرى متعللا في السابق بعدم نشر هذه الاتفاقيات الدولية الإطارية لحقوق الإنسان، وهو ما تم تجاوزه مؤخرا بصدور العدد 1326 من الجريدة الرسمية.

اتجاه يرجح هذه الاتفاقيات الدولية على القانون الوطني إن هو خالفها ويتشبث بها اعتمادا على أن الدولة صادقت على تلك الاتفاقيات ونشرتها مما يعطي لها قيمة أسمى من القانون الوطني بموجب الدستور، ويحجم عن تطبيق القانون الوطني انطلاقا من عدم دستوريته الواضحة، إلا أن هذا الاتجاه لم تشكل أحكامه الاجتهادية المرجعية السائدة لندرتها وقلتها ولكونها انصبت على حالات محصورة متفرقة لم تكرس بصورة مبدئية في قرارات المحكمة العليا ذات الصبغة المبدئية التي يعتمد عليها كمرجع في الاجتهاد الوطني.

وفي اعتقادنا أن سكوت الدستور الموريتاني عن ضرورة الملاءمة والإدراج، والعلاقة بين الاتفاقيات الدولية والقانون الوطني كانت له تداعيات خطيرة على مستوى الأحكام الصادرة عن مختلف المحاكم، مما يستدعي إدراج المقتضيات القانونية التي صادقت عليها بلادنا في قانوننا الوطني تمشيا مع اتفاقية فينا 1969 لقانون المعاهدات:حيث تنصُّ المادة: 27 "لا يجوز لطرف في المعاهدة أن يحتج بنصوص قانونه الداخلي كمبرر لإخفاقه في تنفيذه المعاهدة".

  إن جنوح القضاء الوطني  إلى ترجيح القانون الوطني على الاتفاقية الدولية يخالف مبدأ الإلزام الذي تكرسه الاتفاقية الدولية وخرق لمبدأ سمو هذه الاتفاقية.

وفي غياب الإدراج والمواءمة يكون لا بد من  تفعيل قواعد التفسير، و عقْلـَنة التحفظ على المقتضيات الدولية، و تفعيل الرقابة الدستورية قبل المصادقة، و تفعيل الطعون بعدم دستورية المقتضيات القانونية المخالفة، و العمل بمقتضى الاتفاقيات الدولية لحقوق الإنسان من خلال توسيع قاعدة الاجتهاد القضائي و الاستفادة من مواد الإحالة ،و تفعيل قواعد الترجيح عند التعارض.

إن النقاش الدائر اليوم حول ملاءمة المقتضيات القانونية الوطنية مع الاتفاقيات الدولية التي صادقت عليها موريتانيا، و التي خصها الدستور بمكانة الصدارة والسمو، يقود إلى مواصلة المطالبة بإدراجها في التشريع الوطني ، و إن تعذر ذلك فهو ملزم بنهج سياسات الملاءمة بمعنى التنسيق، أي بهدف تقريبهما وجعلهما متناسقين، من خلال إلغاء وتقليص اختلافاتهما وتعارضهما، من خلال توسيع قاعدة الاجتهاد القضائي.

و كخلاصة فإن إدراج المقتضى الدولي في القانون الوطني مسألة بالغة الإلحاح يتطلبها الموقف اليوم تخرج القاضي الوطني من حرج العدول عن تطبيق القانون الوطني يتطلب الأمر حاليا تعزيز المواءمة  بين المقتضيين استنادا إلى قواعد الاجتهاد القضائي في غياب الإدراج حتى لا نصطدم بالمقتضيات الدولية التي التزمت بها موريتانيا، وحتى لا نكون منكرين للعدالة بترك تطبيق مقتضى وطني لم يتم إلغاؤه، رغم أن العدول إلى إعمال المقتضى الدولي عمل سائغ دوليا وله شواهد قضائية ثابتة ندعو القضاء الوطني إلى تعزيزها.

أحد, 19/03/2017 - 00:58